الاستخدام المفرط لوسائل الاتصال الحديثة من طرف الأفراد: الآثار و الانعكاسات

إعداد
أ.د. إبراهيم بعزيز

قسم علوم الاعلام والاتصال
جامعة الجزائر

3

         لقد عرفت البشرية منذ فجر التاريخ عدة تطورات و تحولات اجتماعية، كان أبرزها على الإطلاق، التطور و التحول الحاصل في المجتمعات المعاصرة بفعل تكنولوجيات الاتصال الحديثة، و التي غيرت تقريبا كل نواحي الحياة، و أثرت في معظم أنشطتها، حيث اقتحمت وسائل الاتصال هذه كل مجالات الحياة، و أجبرتها على التعامل معها كواقع لابد منه، و على التفكير في كيفية إدماجها في أنشطتها و أعمالها.

         و”نجد أن تكنولوجيا الاتصال قد نمت و تطورت و تمكنت من المساهمة في تطوير الحضارة الإنسانية و رقي الجنس البشري، و بوجه خاص و منذ منتصف الثمانينات، حيث نجد أن العالم يمر بمرحلة تكنولوجية اتصالية جديدة تكاد التطورات التي تحدث فيها أن تعادل كل ما سبق من تطورات في المراحل السابقة، حيث يكاد يتغير شكل و أسلوب عمل وسائل الاتصال، إضافة إلى ظهور وسائل جديدة كان لها آثارها الاتصالية”[i].

” إن عصر الإعلام الكوني ألغى حواجز العزلة بين الحضارات، كما أن السرعة المتزايدة و الفائقة و المستمرة التي تدور بها اليوم عجلة تطور تكنولوجيا الاتصالات و المعلومات دفعت العالم إلى الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات لتعصف ثورة المعلومات و التكنولوجيا متعددة الوسائط جوانب الحياة كافة، في التجارة و السياسة و التربية و التعليم إلى التسلية و الألعاب”[ii]؛ و من الوسائل الاتصالية التي ميزت هذا العصر و أحدثت القدر الأكبر من التأثير و التغيير، شبكة الانترنت العالمية، التي تختلف كثيرا عن وسائل الاتصال التي سبقتها، سواء من حيث استعمالاتها، خدماتها، عدد مستعمليها، أو انعكاساتها و تأثيراتها على مختلف المجالات، وقد قامت باختزال كل الوسائل الإعلامية و الاتصالية الأخرى و احتوائها، فيمكن اليوم من خلالها الاطلاع على كل صحف و جرائد العالم، ومشاهدة كل القنوات التلفزيونية الدولية،و الاستماع لكل القنوات الإذاعية، و يمكن كذلك الاتصال مع الآخرين مهما كان مكانهم في كل أنحاء الكرة الأرضية التي يتوفر فيها الربط بالشبكة العنكبوتية، إلى غير ذلك من المجالات الأخرى التي لحقها تأثير الانترنت و وسائل الاتصال المختلفة، و التي جعلت عالم اليوم يعيش”ثورة جديدة من نوع خاص، فاقت في إمكاناتها و آثارها كل ما حققه الإنسان من تقدم حضاري خلال وجوده على الأرض”[iii]، فالتقدم الحاصل في النصف الثاني من القرن العشرين، قد يعادل كل الفترة السابقة التي عاش فيها الإنسان، و تعوض كل ما توصل إليه؛ و إذا كانت وسائل الإعلام الأخرى مجتمعة قد أحدثت جزءا كبيرا من هذا التغيير و التأثير على حياة الأفراد، فان الانترنت عندما ظهرت قد تجاوزت كل هذه الوسائل، و أصبح تأثيرها يعادل بل يتجاوز تأثير كل الوسائل الأخرى، نظرا لتميزها بخصائص كثيرة و إتاحتها لخدمات و استعمالات متعددة، لم تكن موجودة من قبل فشبكة “الانترنت ليست كغيرها من وسائل الإعلام، فهي كونية و عالمية( mondial et universel)”[iv] ، و متاحة لكل الأفراد دون استثناء، صغيرهم و كبيرهم ذكرهم و أنثاهم؛ و الشيء المهم الذي جعلها تتميز عن وسائل الإعلام الأخرى، هو طابعها التفاعلي، فالمستعمل يمكنه أن يشارك في مضمونها، و يضيف أو يغير أي شيء، و يمكنه أن يختار الخدمة التي يشاء.

     و تعتبر هذه السهولة في الاستعمال و إتاحة الوصول لخدماتها المتعددة، من أهم العوامل التي جعلت شبكة الانترنت تستقطب نسبة هامة من المستعملين، بكل الفئات و المستويات الثقافية و العلمية، و في الحقيقة فإن استعمال هذه الوسيلة الاتصالية الحديثة يختلف عن استخدام وسائل الإعلام الأخرى، فالفرد بإمكانه أن يقضي أوقاتا طويلة دون أن يشعر أمام الحاسوب، لأن الانترنت تقدم عدة خدمات تجلب الاهتمام، كمحركات البحث، منتديات المحادثة الالكترونية، المدونات، مواقع الشبكة الاجتماعية (social media)، البريد الالكتروني، إلى غير ذلك من التطبيقات، بالإضافة إلى توفيرها كل وسائل الإعلام التقليدية، كالصحف و المجلات الالكترونية، و البث الإذاعي و التلفزيوني على الشبكة و المكتبات الافتراضية.

     و قد أدى هذا الاستعمال المفرط لشبكة الانترنت و خدماتها المختلفة، الى حصول ما يسميه )فيليب بروتون( “بالثمالة الاتصالية” (l’ivresse de communication)[v] ، و بالتالي إلى حدوث عدة انعكاسات على الأفراد المستعملين و على المستوى العام للمجتمع، سواء كانت انعكاسات اجتماعية ، نفسية، أخلاقية، أو ثقافية؛ و سنحاول من خلال هذه الورقة أن نبين أهم و أبرز هذه الانعكاسات.

من بين أبرز المفاهيم المرتبطة باستخدام تكنولوجيا الاتصال و الانترنت، مفهومي “المجتمع الافتراضي” و “المجتمع الجماهيري المتفرد”، و يعتبر الأول سببا في ظهور الثاني، أي أن استعمال الانترنت بشكل مفرط أدى إلى ظهور مجتمعات افتراضية، أدت بدورها إلى بروز مجتمعات جماهيرية منفردة.

  • شبكة الانترنت و المجتمعات الافتراضية:

     لقد أدى الاستخدام المفرط لشبكة الانترنت و الإقبال المتزايد على خدماتها، إلى تشكل ما يسمى بالمجتمعات الافتراضية (Virtual societies)، التي تتكون من هويات لأفراد حقيقيين، يتواصلون فيما بينهم لأغراض و دوافع مختلفة.

و يعرف(محمد منير حجاب) المجتمع الافتراضي بأنه”مجتمع يتكون من أشخاص متباعدين جغرافيا، و لكن الاتصال و التواصل بينهم يتم عبر الشبكات الالكترونية، و ينتج بينهم نتيجة لذلك نوع من الإحساس و الولاء و المشاركةً”[vi]، و يعرفه (Serge Broulx) “بأنه العلاقة التي تنشأ بين مجموعة من مستخدمي منتديات النقاش و الدردشة الالكترونية، و هؤلاء المستعملون يتقاسمون الأذواق، القيم، الاهتمامات و الأهداف المشتركة”[vii].

و يعرف كذلك ‘سيرج بروكس’ المجتمع الافتراضي بأنه:”مجموعة أفراد يستخدمون بعض خدمات الانترنت الاتصالية (منتديات المحادثة، حلقات النقاش، أو مجموعات الحوار…،) و الذين تنشأ بينهم علاقة انتماء إلى جماعة واحدة (lien d’appartenance)، و يتقاسمون نفس الأذواق، القيم، و الاهتمامات و لهم أهداف مشتركة”[viii]، و بالتالي فإن الشيء المميز في هذه المجتمعات كونها تتشكل على أساس اهتمامات و أشياء مشتركة بين هؤلاء المستخدمين، أي أن الصفات و الخصائص الموجودة في كل شخص هي التي تحدد نوع و طبيعة الجماعة الافتراضية التي ينتمي إليها و يندمج فيها؛ و يعرف المجتمع الافتراضي الباحث (karasar) بأنه “مجموعة أشخاص اندمجوا في الاتصالات و التفاعلات عبر الانترنت، في حلقات النقاش أو منتديات المحادثة الالكترونية” أما schramm) فهو يرى أن المجتمع الافتراضي هو عملية تقاسم فضاء للاتصال، مع أفراد لا نعرفهم، و غالبا ما يتم هذا في الوقت الحقيقي، و هو عبارة عن انعكاس للمجتمع الواقعي، لكن لا يوجد فيه أناس فعليون و اتصالات حقيقية كما في الواقع( أي أنها افتراضية)، وهو عبارة عن جمهور من كل أنحاء العالم، جالسون أمام شاشة الكمبيوتر للتواصل مع بعضهم البعض”[ix].

1_77691_1_34

و يتبين من خلال ما سبق أن المجتمع الافتراضي هو عبارة عن مجموعة أفراد، يستخدمون تطبيقات الانترنت الاتصالية، تعرفوا على بعضهم البعض و شكلوا علاقات فيما بينهم افتراضيا، و يتفاعلون افتراضيا، ولهم معايير و قواعد خاصة بهم، و لهم نفس الاهتمامات و الأفكار و المميزات، وهذا ما يجعلهم يبنون علاقات وطيدة مثل تلك التي تتشكل في المجتمع الحقيقي، و يطلق على هؤلاء الأفراد بدورهم تسمية الأفراد الافتراضيين”virtual individual’s” أو الأفراد الانترنيتيين (netizen)، الذين يمكن اعتبارهم كائنات حوارية-كتابية في أغلب مظاهرهم، و يتميز هؤلاء الأفراد بغياب الصورة الجسدية الفيزيقية الملموسة للإنسان، بحيث تحل محلها الحوارات التي يقدمها الأفراد، و المعلومات التي يتشكلون بها، و لا يبقى في حقيقة الأمر إلا أجهزة الحواسيب في كل مكان، تمثل الأفراد البشريين بشكل أو بآخر، و كأنهم مجرد اللحم و الدم لمجتمع آلي جديد”[x]، و نجد أفراد المجتمع الافتراضي يمنحون أهمية كبيرة لجماعتهم الافتراضية على حساب جماعتهم الأولية، و محيطهم الاجتماعي و علاقاتهم الحقيقية، و حسب Raymond B. François B. فإنه عندما يصبح بقاء الجماعة هو الهدف الهام لدى أفرادها أكثر من أهدافهم و أمورهم الشخصية، فحينئذ يمكن القول أن هذا التجمع يمكن أن يشكل مجتمعا أو هو في طريق التشكل”[xi]، و بالفعل هذا هو ما يحدث في المجتمعات الافتراضية، حيث أن الأفراد يهتمون أكثر بمصير علاقاتهم و اتصالاتهم الافتراضية من علاقاتهم مع أهلهم وأصدقائهم الواقعيين.

و قد كتب الباحث (Rheingold Howard) كتابا كاملا حول هذه المجتمعات، عنونه ب “المجتمع الافتراضي”virtual community” و جاء فيه أن “المجتمع الافتراضي يجمع أشخاصا من كل أنحاء العالم، يقيمون فيما بينهم علاقات تعاون، تبادل معلومات و خبرات، و يجرون مناقشات ثرية ( خاصة في المواضيع الفكرية و العاطفية)، أكثر مما هو عليه الحال في الحياة الواقعية[xii].

و من خلال ما سبق يمكن لنا تحديد الخصائص و السمات العامة للمجتمعات الافتراضية:

خصائص المجتمعات الافتراضية:

  • تتميز بكونها جماعات مصالح (communauté d’intérêts)، لأنها تتشكل بفعل الاهتمامات و المصالح المشتركة.
  • يتقاسم أفرادها نسبيا نفس الاعتقادات و العادات و القيم، ولهم إحساس بالتضامن.
  • لا يوجد فيها حضور فيزيائي، ولا تقارب جغرافي بين الأفراد( إلا في بعض الأحيان)، و لا وقت حقيقي، فغالبا ما يكون الوقت متفاوتا بين المدر دشين المتباعدين جغرافيا”[xiii].
  • تتميز هذه المجتمعات بالعالمية، أي يشارك فيها أفراد من كل أنحاء العالم”[xiv]
  • تتميز باستعمال أفرادها أسماء مستعارة و هويات مستعارة [xv]« fluidity of identity” و يقدمون غالبا بيانات غير مطابقة للواقع.
  • يتميز أفرادها بعدم التجانس في بعض الجوانب، فقد يكون لكل شخص مستوى معين أو مهنة تختلف عن الآخرين.
  • تتميز بأنها مجتمعات مؤقتة و ليست دائمة، فيمكن لها أن تزول في أي وقت خاصة إذا تناقص عدد أفرادها.
  • ” توفر فرصا أكبر لأعضائها للتفكير بحرية”[xvi]، و التعبير في كل المواضيع.
  • يتميز أفرادها بالولاء و الخضوع لقواعد و معايير هذا المجتمع، لأنه كما يقول (عبد المنعم البكري) فإن ” كل فرد يتأثر بالجماعات التي ينتمي إليها، و تأثر على سلوكاته، و تجعله ينساق مع آرائها”[xvii]، و يؤيد ذلك الكاتب ‘إقبال مهني’ و الذي يقول بأن “الفرد يتفاعل و يتصل بجماعة ما، حسب نمط معد مسبقا، لا يمكنه أن يبتعد أو أن يتخلى عنه، مخافة أن يبقى منعزلا و مرفوضا من طرف الغير”[xviii].
  • تتميز هذه المجتمعات باستخدام رموز و لغة خاصة بها، و هي عبارة عن إشارات و رسوم تستخدم للتعبير عن الحالات النفسية للأفراد و على تلميحات الوجه.
  • تتميز بأن لها قواعد سلوك خاصة بها، تلزم كل منخرط جديد أو مستعمل أن يلتزم بها و أن يحترمها، و هي تتضمن عموما بعض المواد و القوانين التي تشرح للأفراد كيفية الاستخدام، و آداب التعامل مع المدر دشين الآخرين و عدم إزعاجهم، إلى غير ذلك، وهي معروفة بتسمية النيتيكت ( .(netiquette.
  • الانترنت و تجسيد المجتمع الجماهيري المتفرد (société individuelle de masse):

       عرفت كل مرحلة من المراحل التي مرت بها البشرية، ميلاد تقنية أو اختراع جديد، أدى إلى تغيير معالم الحياة الاجتماعية، فكما كان ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر عاملا مهما لانتشار العلم والمعرفة في كل بقاع الأرض، من خلال طبع الكتب و الجرائد و غيرها من المطبوعات، و نشرها و توزيعها و جعلها متاحة لكل الناس، و ما أدى ذلك من تحرر الناس من ظلام الجهل و من سيطرة رجال الكنيسة و هيمنتهم، فكذلك كان ظهور الآلة البخارية سببا مهما في ازدهار الصناعات، و تحسن وسائل النقل و الزراعة، و انتشار المصانع في المدن، و ما أدى إليه من هجرة الناس و نزوحهم إلى المدن، و انتعاش التجارة و الاقتصاد، الشيء الذي أدى إلى تحسن الوضع الاجتماعي و المعيشي للأفراد؛ و قد أطلق الكتاب على هذا المجتمع تسمية المجتمع الصناعي؛ و بحلول القرن العشرين و بالضبط في سنوات الخمسينيات، و مع التطور الملحوظ في الصناعات ذات العلاقة بالمعلومات و الخدمات، و الانفجار الهائل في حركة النشر، و ظهور الهيئات و المؤسسات التي تشتغل بصفة رئيسية في قطاع المعلومات، بالإضافة إلى التقدم الكبير في ميدان تكنولوجيات الإعلام و الاتصال و الحواسيب، و أجهزة الاتصال السلكي و اللاسلكي، كل هذه العوامل و غيرها مهدت لميلاد مجتمع اصطلح على تسميته بمجتمع المعلومات؛ و الذي يشهد تطورات و اختراعات لم يشهد لها مثيل من قبل، و لا سيما في تقنيات الاتصال، و قد صحبتها تطورات في عدة ميادين أخرى ذات علاقة بها؛ و كما يقول الكاتب(Patrice flichy) فإن تطور الاتصال يقوم دائما على العلاقة القائمة بين تطورات تقنية و تطورات المجتمع”[xix]، و عليه فقد حدثت تغيرات و تطورات سريعة الوتيرة جعلت المجتمع الحديث يتبدل يشكل جذري.

و قد شاع بين الباحثين المختصين وصف هذا المجتمع المعلوماتي، الذي تستخدم فيه بكثرة وسائل الاتصال، في كل الميادين، بالمجتمع الجماهيري المتفرد أو المجتمع الانفرادي الجماهيري (la société individualiste de masse)، أو كما يسميه (معن خليل) المجتمع المتفرد الجماهيري[xx].

مفهوم المجتمع الجماهيري المتفرد:

هناك عدة تعريفات قدمها المختصون في هذا المجال، سنذكر البعض منها.

يعرفه الكاتبان(سلزنيك و بروم) بأنه المجتمع الذي يتكون من “جماهير بمعنى أنه قد ظهر جمهور عريض من الأفراد المنفصلين، الذين يعتمدون على بعضهم البعض في كل الوسائل المتخصصة، و إن كانت تنقصهم قيمة أو هدف أساسي يوحد بينهم، و قد أدى ضعف الروابط التقليدية و تنامي العقلانية و تقسيم العمل، إلى خلق مجتمعات تتكون من أفراد مرتبطين ببعضهم ارتباطا طفيفا”[xxi]، أي أن العلاقات الاجتماعية التي تربطهم هي علاقات اقتضتها طبيعة العمل و علاقات مصالح، لا تزول طويلا و تزول بزوال المصالح و الظروف التي جمعتهم. و إذا كانت القفزة و التطور الكبير في الميدان الاقتصادي و الصناعي، الذي صاحبه تقسيم شديد للوظائف، هو الذي وضع أسس و بدايات هذا المجتمع المتفرد، فإن وسائل الاتصال و تكنولوجيات الإعلام الحديثة قد ساهمت بشكل كبير في استمرار هذا المجتمع و تجسيده أكثر على كل المستويات، فأصبحت هذه الجماهير المكونة لهذا المجتمع منعزلة بفعل الاستعمال المفرط لوسائل الاتصال، التي تزيد كما يقول (عزي عبد الرحمان)[xxii] من سمة الفردانية؛ فالمجتمع الحديث أصبح”مجتمعا يتميز بتعقيد أكبر حيث ينعزل فيه الأفراد اجتماعيا عن بعضهم البعض”[xxiii]، مما يؤدي بهم إلى الاهتمام بانشغالاتهم و مشاكلهم الشخصية لا غير، و يقل عندهم الاهتمام بالقضايا الجماعية، و ينقص الحس الجماعي، حيث “أن الاتجاه الجديد لوسائل الاتصال الحديثة أصبح يتجه نحو تفتيت الجمهورdemassification”[xxiv]؛ و يعتبر (wolton) هذا المجتمع بأنه “مجتمعا انعزاليا فردانيا يتكون من جماهير منعزلة و منفصلة عن بعضها بفعل تكنولوجيات الاتصال الحديثة”[xxv].

و إذا كان البعض يعتبر أن شبكة الانترنت تساهم في بناء علاقات اجتماعية بين الافراد، عبر مواقع الشبكة الاجتماعية (facebook, myspace) و منتديات المحادثة الالكترونية و البريد الالكتروني، فإن البعض الأخر يرى العكس، معتبرا أنها تساهم بشكل أكبر في توسيع الهوة و الفجوة الاجتماعية بين الأفراد عبر عزلهم و فصلهم عن بعض البعض.

  • انعكاسات و تأثيرات استخدام شبكة الانترنت:

تعتبر الاتصالات التي تتم عبر الانترنت (عبر المنتديات الالكترونية بالخصوص)، ذات آثار و انعكاسات على عدة مستويات، و على مختلف الجوانب (الاجتماعية، النفسية، المعرفية و السلوكية…)، و هي إما انعكاسات ايجابية أو سلبية، و هذا شيء طبيعي لأن الانترنت كغيرها من وسائل الإعلام و الاتصال، لابد و أن تحدث أثرا على مستعمليها و تغييرا، سواء كان في الجانب الثقافي[xxvi]، الاجتماعي[xxvii]، السلوكي[xxviii]، اللغوي[xxix]، أو السيكولوجي[xxx]،إلى غير ذلك من الجوانب التي يمكن أن يلحقها هذا التأثير؛ الذي سيكون أعمق من قبل، نظرا لتطورها و لتعدد تقنياتها و خدماتها، فمن دون شك كلما تطورت وسائل الإعلام و الاتصال كلما زادت حدة تأثيراتها ووقع انعكاساتها.

و كما قلنا في السابق فقد أجريت عدة دراسات غربية حول الانعكاسات المختلفة لاستخدام الانترنت بشكل مفرط على مستعمليها، و لا سيما المدمنين منهم، و سنعرض أبرز هذه البحوث و أهم نتائجها فيما يلي:

  • دراسة (Guillaume Latzko-toth) بعنوان:” a la rencontre des tribus IRC”، و هي عبارة عن مذكرة ماجستير نوقشت بجامعة Québec في كندا سنة 1998، و قد تناول الباحث منتديات المحادثة الالكترونية، و كيفية بناء العلاقات الاجتماعية عبرها، و تشكيل المجتمعات الافتراضية ؛ و قد توصل الباحث في نتائج دراسته إلى تفنيد ونفي أي تعارض بين الواقع الافتراضي والحياة الحقيقية، خاصة من الجانب الاجتماعي حيث أن منتديات الدردشة تجمع أفرادا من مختلف الأجناس و المستويات والمجتمعات، و تتيح لهم إمكانية التفاعل و بناء علاقات اجتماعية تماما مثل ما يحدث في الواقع، و بالتالي فهناك عدة أشياء موجودة في الواقع الافتراضي تقابل ما هو في الواقع الحقيقي و تحاكيه[xxxi].

– دراسة(إليزابت رد)بعنوان الاتصال و المجتمع في منتديات المحادثة الالكترونية[xxxii]: و هي عبارة عن رسالة ماجستير نوقشت في جامعة ملبورن(Melbourne) باستراليا، و قد تناولت هذه الدراسة تاريخ و نشأة منتديات الدردشة، و الخصائص التي تتميز بها و كيفية تشكل المجتمعات الافتراضية، و قد توصلت الدراسة إلى تحديد السمة الأساسية و التي أدت إلى شيوع استخدام منتديات الدردشة بشكل سريع وواسع، وهي إمكانية إخفاء الهوية(anonymity)، و كذلك انعدام الرقابة الاجتماعية، و بالتالي فإن المدر دشين لهم الحرية التامة في التعبير و مناقشة أي موضوع، و من نتائج هذه الدراسة كذلك أن المجتمعات الافتراضية قد أدت إلى نشأة لغة خاصة بها، تتكون من أشكال و رموز و رسومات مختلفة، بالإضافة إلى تشكل معايير و قواعد خاصة بهذه المجتمعات.

– دراسة هورمان(Horman) بعنوان : دراسة استكشافية للتفاعل الاجتماعي الذي يحدث على شبكة الانترنت: و هي رسالة ماجستير نوقشت بجامعة لافال (Laval) بكندا سنة 2005، و تتناول الدراسة أشكال التفاعل الاجتماعي الذي يحدث على الشبكة العالمية، خاصة في إطار انجاز نشاطات جماعية للتكوين و التعليم عبر الشبكة، و قد ركزت الباحثة على الجانب السوسيوثقافي للأفراد المشاركين في مثل هذه التفاعلات، و كيفية ارتباطهم ببعضهم البعض، و قد توصلت الباحثة إلى أن هذا التفاعل يؤدي إلى درجة كبيرة من التأثير المتبادل بين هؤلاء، حيث يرتبطون ببعضهم البعض بشكل يؤدي إلى تغيير عدة جوانب في حياتهم، و بالتالي فإن الدراسة بينت أن التفاعلات الافتراضية قد تحدث أثرا في حياة الأفراد بنفس الشكل الذي يحدث في التفاعلات المباشرة وجها لوجه[xxxiii].

– الدراسة التي قام بها كل من (فالري و سيرج وفلدوفسكا) بعنوان:”دراسة المحادثات الالكترونية من خلال الانترنت والانترانت”[xxxiv]، و تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن مختلف أشكال الانتماء الاجتماعي، والمشاركة في النقاشات على الشبكات الالكترونية، و أشكال التفاعل الذي يتم بينهم، و كيفية تشكل الجماعات الافتراضية، و قد توصلت الدراسة إلى أن الصفحات الشخصية تلعب دورا كبيرا في بناء العلاقات الاجتماعية بين الأفراد حيث أنها تعكس البيئة الاجتماعية للفرد و هي التي تنقل لنا خصائصه و سماته الشخصية.

– دراسة (ميندوزا):بعنوان:” المراهقات و منتديات المحادثة الالكترونية”، و قد نشرت هذه الدراسة جامعة (Temple) بفيلادلفيا (الولايات المتحدة الأمريكية)، و ذلك سنة 2007،و توصلت هذه الدراسة إلى أن الكثير من المراهقات يعملن من خلال شبكة الانترنت على اللعب بالأدوار و تغيير شخصياتهن(identity play)، من خلال تقديم بيانات خاطئة، و تعتبر هذه الخاصية (إخفاء الهوية) الشيء الذي يجذبهن إلى استعمال الانترنت بدرجة كبيرة، حيث أنهن يحاولن التعرف على آراء الغير و نظرتهم إلى هذه الشخصيات التي يتعاملن بها، و قد خلصت الدراسة إلى أن منتديات الدردشة يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية على المراهقات، سواء من الناحية السلوكية أو الأخلاقية، النفسية و غير ذلك من الجوانب[xxxv].

– دراسة (أسلانيدو) و (مينيكس) بعنوان:” الشباب والانترنت، الاستخدامات والتطبيقات المنزلية”[xxxvi]، وقد نشرت هذه الدراسة سنة 2008 بمجلة”COMPUTER&EDUCATION“، و قد شملت عينة من تلاميذ الثانويات بلغت 418، وتناولت بالدراسة أهم التطبيقات و الاستعمالات التي يستخدم من أجلها الشباب شبكة الانترنت، و توصلت هذه الدراسة إلى أن استعمال الانترنت في المنزل لأغراض دراسية يتم بنسبة قليلة، كما أن الانترنت تعتبر مؤشرا للمكانة السوسيواقتصادية للأفراد، حيث وجد أن أغلب المستعملين ينتمون إلى أسر ذات مستوى ثقافي و علمي معتبر، بالإضافة إلى كون الذكور أكثر استخداما لشبكة الانترنت لأغراض ترفيهية، و أخيرا بينت الدراسة أن استعمالات الانترنت لم تكن لها علاقة بمكان الإقامة، بقدر ما كانت لها علاقة بالمستوى الثقافي و العلمي للأولياء.

– دراسة (بيتريز) بعنوان: « online infidelity in internet chat rooms: an ethnographic exploration”، و قد نشرت هذه الدراسة في مجلة COMPUTER IN HUMAN BEHAVIOR عدد 23 سنة 2007، و تناولت طبيعة التفاعلات الاجتماعية التي تتم عبر منتديات الدردشة، و دورها في تغيير النسيج الاجتماعي، و في بناء علاقات عاطفية، و قد ركزت الباحثة على انعكاسات ذلك على العلاقات الزوجية، و بينت أن هذه الاتصالات لها دور كبير في التقليل من الوفاء بين الزوجين، و بالتالي في إحداث عدة مشاكل اجتماعية، و لكل ذلك انعكاسات على النسيج الاجتماعي، مما يؤدي إلى إحداث فجوة و تفكك اجتماعي كبير[xxxvii].

و على العموم يمكن أن نلخص الانعكاسات المترتبة عن “الادمان الاتصالي” فيما يلي:

1- الانعكاسات الاجتماعية: يمكن القول أن الأثر الأساسي للاستخدام المفرط لتطبيقات الانترنت الالكترونية، يتمثل في علاقة الفرد بمحيطه الاجتماعي، و نسبة احتكاكه به، حيث أن العديد من الدراسات التي تناولت هذه الجوانب بينت أن هؤلاء الافراد يحدث لهم نوع من العزلة و الانفراد، و تراجع مدة جلوسهم مع أفراد عائلاتهم و أصدقائهم.

ففي دراسة قام بها (كريستوفر سانديرز) نشرت في صيف سنة 2000م، تبين أن هناك علاقة بين استعمال الانترنت و مشاعر العزلة الاجتماعية و الاكتئاب[xxxviii]، و قد بينت دراسة أخرى[xxxix] أن الاستعمال الزائد للانترنت كانت له علاقة مع انخفاض الاتصالات العائلية، و نقص حجم الدائرة الاجتماعية المحلية للعائلة، مع زيادة مشاعر الاكتئاب و الوحدة، فالتقنيات الاتصالية للانترنت تجعل الفرد يشعر بمتعة و انبساط، نظرا لإمكانية الحديث مع أشخاص من كل أنحاء العالم و في الوقت الآني المتزامن، و هذا ما يجعله يستغرق في النقاشات و يقضي أوقاتا دون أن يشعر، و بالتالي “ينفصل عن المجتمع الحقيقي و يدخل في مجتمعات افتراضية”[xl]، و يصبح شخصا غريبا عن مجتمعه، و ينقص اهتمامه بقضاياه و بأحداث محيطه الاجتماعي، و مع مرور الوقت يتحول إلى شخص منعزل تماما عن بيئته الاجتماعية، و يصيبه ما يسمى “بالانعزال الذاتي le repli sur soi”[xli]، و يزداد ارتباطه بأصدقائه الافتراضيين، إلى درجة أن يفقد الرغبة في الجلوس لمدة طويلة مع أفراد عائلته وأصدقائه؛ و يعود هذا الارتباط الشديد بالجماعة الافتراضية و بمنتديات المحادثة الالكترونية، إلى كون هذه المنتديات “توفر بيئة يقوم فيها الأفراد بتطوير شعور الانتماء و الهوية الاجتماعية (social identity)، و توفر بنيات اجتماعية موجودة في المجتمع الحقيقي”[xlii]، بالإضافة إلى الأثر المحتمل على العلاقات الزوجية، و التي قد تتدهور بشكل كبير و تؤدي حتى إلى الطلاق، خاصة إذا انغمس أحد الطرفين في علاقات افتراضية غير شرعية[xliii].

و لهذا فإن الاستعمال المتواصل لشبكة الانترنت و خدماتها الاتصالية يهدد بشكل مباشر كيان العلاقات الحقيقية وجها لوجه، و يحدث قطيعة بين الأفراد، مما يؤدي إلى زوال النسيج الاجتماعي التقليدي، و حلول نسيج اجتماعي افتراضي محله، يتميز”بانعدام حميمية الجوار و التقارب”[xliv].

و كنتيجة لهذا الانعزال و الانفصال الاجتماعي، يحدث نوع من التفكك الاجتماعي، و تطغى النزعة الفردية على الجماعية و يتراجع الاهتمام بقضايا الجماعة؛ لكن هذا الانعزال لا يجب أن يجعلنا نغفل عن العلاقات الجديدة التي يكتسبها الفرد مع أفراد من كل الأنحاء، فهو يتعرف على أفراد جدد كل يوم، و رغم ذلك فإن هذه العلاقات لا يمكن أن تحل محل العلاقات الواقعية مع محيطنا الاجتماعي، و يمكن كذلك لهذه الاتصالات أن تقرب بين شعوب العالم، و تعرف بعضهم بتقاليد البعض الآخر، و تقرب بين آرائهم و أفكارهم، و يمكن أن تؤدي كذلك إلى حصول “التجانس الثقافي”[xlv] الذي يجعل ثقافات الأفراد تتعايش و تتقارب فيما بينها، و تتمازج لتأخذ كل واحدة عن الأخرى ما يناسبها و يخدمها. و من الانعكاسات التي تحدث كذلك من جراء استخدام منتديات المحادثة الالكترونية باعتبارها وسيلة اتصال،”الاغتراب الثقافي و التنميط الاجتماعي[xlvi]، الذي يجعل الفرد يشعر و كأنه لا ينتمي إلى ثقافة مجتمعه، و تبدأ أعراض التملص من عادات مجتمعه و تقاليده، و تبدوا أعراض التشبث بالقيم الغربية، و أنماطهم الثقافية الناتجة عن كثرة الاحتكاك بهم و الاتصال معهم.

  • الانعكاسات المختلفة على السلوكات و المواقف: يمكن لمستعملي الانترنت و لاسيما تطبيقاتها الاتصالية الالكترونية، أن يتأثروا بالأشخاص الذين يتواصلون معهم، فيحدث جراء ذلك تغيرا في سلوكاتهم و تصرفاتهم، كما تتغير كذلك مواقفهم و اتجاهاتهم المختلفة، لأن “اكتساب الاتجاهات الاجتماعية لدى الفرد يتم عن طريق التفاعل الذي يحدث بين الفرد و غيره من أفراد المجتمع”[xlvii]، و نظرا لاندماج الفرد كلية في الاتصال مع أشخاص آخرين، يحدث له نوع من الشعور بالولاء و الانتماء، و الالتزام بمعايير جماعته الافتراضية، و بالتالي تبني مواقفهم و أفكارهم و اتجاهاتهم، بالإضافة إلى ذلك فإن المحادثة لأوقات طويلة يجعل الفرد يتخلى عن سلوكات كان يقوم بها لتحل محلها سلوكات غيرها، و لهذا يحذر المختصون من أخطار و انعكاسات الاتصالات الالكترونية على الأطفال و المراهقين، و من إمكانية انحراف سلوكاتهم و أخلاقهم.

الانعكاسات على الجانب الديني و الأخلاقي: من أخطر الانعكاسات التي يمكن أن تنتج عن الاستعمال المفرط للخدمات الالكترونية، تلك المتعلقة بالجانبين الديني و الأخلاقي، حيث أن مناقشة مواضيع تافهة و انحرافية، ولاسيما تلك المتعلقة بالجنس، قد تؤدي إلى “تدهور منظومة القيم[xlviii] و انحطاط أخلاقي لدى الأفراد، لأن الحديث الالكتروني قد يكون مع أشخاص جديين و متخلقين كما قد يكون مع أشخاص منحرفين لا قيم لهم و لا مبادئ، و هذا ما يشكل خطرا خاصة بالنسبة للأطفال و المراهقين، لأنهم دائما ينساقون وراء ما هو غامض و مجهول نظرا لفضولهم الكبير، و محاولة اكتشاف كل شيء، و لهذا فإنهم قد يتعرضون لنقاشات إباحية تؤدي إلى انحراف سلوكاتهم بشكل كبير؛ بالإضافة إلى هذا فإن استغراق أوقات طويلة في استعمال الانترنت قد يؤدي إلى تهاون في أداء الواجبات الدينية مثل الصلاة في المسجد، إلى غير ذلك من العواقب التي تنجر عن الإدمان الانترنتي؛ و هناك من يستعمل بعض الخدمات للقدح في الأشخاص و انتهاك خصوصياتهم، أو لاستفزاز طرف معين، أو لإجراء نقاشات عنصرية، وهذا ما جعل العديد من الجهات تطالب بوضع قوانين تلزم مسيري و مصممي هذه المنتديات و مزودي خدمة الانترنت بمراقبة محتوى حلقات النقاش[xlix]، وللإشارة فإن هناك كثير من البلدان التي تملك تشريعات و قوانين في هذا المجال، تعمل على وضع حدود و إجراءات ردعية و تنظيمية[l].

  • الانعكاسات النفسية: من بين الآثار التي تسببها الأوقات المتواصلة أمام الشبكة الالكترونية، الإصابة بالإحباط النفسي، و الإحساس بالقلق بسبب قضاء أوقات طويلة، و لا سيما إذا كان هذا الاستعمال عشوائيا أي دون هدف محدد مسبقا، أو إذا أجرى نقاشا في موضوع تافه لا ينفع كالمواضيع الإباحية، فإنه من دون شك سيشعر في الأخير بالذنب و تضييع المال و الوقت، و هو ما يؤدي به إلى الشعور بالإحباط النفسي و المعنوي[li].
  • نشأة تيار معارض لاستخدام تكنولوجيا الاتصال و الانترنت:

و للإشارة فقد نشأ تيار فكري معارض لاستخدام تكنولوجيا الاتصال و الانترنت، بفعل هذه الانعكاسات المتعددة، و هم المتشائمون من التقنيات الحديثة”les technophobes”، يمثل هذا الاتجاه مختصون في علم الاجتماع و علم النفس، و هم يتعرضون بالنقد اللاذع لتكنولوجيا الاتصال و الانترنت، و يتخوفون أيما تخوف من آثارها و انعكاساتها على الفرد و المجتمع، “و لا يقتصر الأمر في مجال نقد تكنولوجيا الاتصال على المخاوف الواقعية، و لكنه يمتد إلى المخاوف الوهمية، و يتمثل ذلك فيما يعرف بظاهرة ‘التكنوفوبيا’، حيث لا ينحصر الخوف المرضي من التكنولوجيا بين جموع البسطاء و ذوي الثقافة المحدودة، الذين ينفرون من استخدام الأجهزة الحديثة، بل يمتد أيضا إلى الإداريين و صناع القرار الذين يرفضون تغيير أساليب العمل التقليدية، و الاستفادة من إمكانيات الأجهزة الحديثة نتيجة هذا الشعور المرضي”[lii]. و قد تعددت أسباب هذا التخوف، و دواعي التشاؤم من التكنولوجيات الحديثة، فهناك من يرى بأنها وراء”عدة سلبيات في مجتمع اليوم، كالتفريق بين الأفراد و عزلهم، و تفقير القاموس اللغوي لدى الشباب، و التسبب في عدائهم للأدب و الفكر”[liii]، و إن كان بعض الكتاب يقر بالايجابيات الكثيرة لتكنولوجيا الاتصال، من خلال الاستفادة منها في عدة مجالات، و تسهيل عدة أعمال و نشاطات إلا أنهم يركزون على سلبياتها أكثر، و منهم الكاتب (ايفيس) الذي يرى بأن “تكنولوجيا الاتصال المعاصرة تقدم حلولا لبعض المشاكل الموروثة، في نفس الوقت الذي تقوم فيه بخلق العديد من المشاكل الجديدة، فهي تنمي العلاقات الإنسانية اللاشخصية و تكبح إبداع التفكير الإنساني”[liv]، إذ أن استخدامها في كل المجالات و لا سيما في الميدان العلمي، سيؤدي إلى الاعتماد الكامل عليها، و بالتالي سيجر العقل البشري إلى الخمول و الركون للراحة؛ و من الباحثين المتخوفين أيضا من تكنولوجيا الاتصال، واحد من كبار المصممين و المختصين في هذا المجال (الإعلام الآلي)، و هو مخترع برنامج “Java”، الأمريكي (bill joy)، الذي ترأس اللجنة الأمريكية حول مستقبل البحث في ميدان تكنولوجيا الإعلام، و الذي يرى بأن تكنولوجيا الاتصال لها أثر حتى على فرص وجودنا و بقائنا ككائنات بشرية في هذا العالم، خاصة في عصر التطورات الحاصلة في التقنيات التي أصبحت تصمم و تصنع نفسها بنفسها (techniques autoproductrices)، و يضيف الكاتب أن هذه التكنولوجيات يمكن أن تقودنا حتى إلى الفناء و الزوال من على هذه الأرض. و تشارك المختصة النفسانية (sherry turkle) مواطنها الأمريكي نفس وجهة النظر، و التي ترى بأن التوجه الكبير إلى الاهتمام بالتقنيات الحديثة، أدى إلى اعتبار الإنسان كآلة، حيث تم تجريده من كل أحاسيسه و إنسانيته[lv].

و بالإضافة إلى هؤلاء، نجد الفيلسوف الألماني(jurgen Habermas)[lvi] يتعرض بالنقد للتقنيات الاتصالية الحديثة، مع كل من ‘m.Horkheimer, G.simondon, L.munford, G.dumézil، و الذين بينوا حدود البعد التقني في عملية الاتصال، و أن القدرة العالية للتقنيات و الأجهزة ليست الشرط الوحيد لحدوث اتصال اجتماعي و إنساني فعال[lvii]، فالاتصال الإنساني عملية معقدة أكثر مما يتصوره الكثير، إذ تتطلب عدة أمور كي تكون ناجعة و فعالة.

و في مقدمة كتابهما، يتساءل كل من( vahé Z.وEmile N.) هل يمكن اعتبار تكنولوجيا الاتصال نعمة علينا أم نقمة؟[lviii]، أي هل يمكن أن نتفاءل من إدماجها في مجتمعاتنا و الترحيب بها، أو نحذر منها و نتحفظ من تبنيها و استعمالها في مختلف الميادين كوسيلة حديثة؛ و قد قام مجموعة من المهتمين بهذا الميدان، بالإجابة على هذا التساؤل، حيث يبين الكاتب (فيليب بروتون)[lix] “الأخطار المحتملة و الجسيمة على الروابط الاجتماعية، و توجه الأفراد إلى العزلة الاجتماعية و النفسية عن محيطهم بفعل الاستخدام المفرط للانترنت، كما لا يخفي الكاتب (Paul virilio) تخوفه من كون التكنولوجيات الحديثة للاتصال يمكن أن تكون وسائل حرب، و تساعد على التأليب و التضليل و إقامة الحرب الافتراضية.

و لعل هذا ما جعل بعض الناس يتهمون الانترنت بالفوضى و بأنها تجسد النيوليبرالية[lx]، من خلال قيامها بعولمة الاتصال و تعميمه في كل أرجاء المعمورة، بالإضافة إلى محتواها، الذي تسيطر عليه اللغة الانجليزية بشكل واضح، و لذلك يعتبرها البعض وسيلة أو قناة لتصدير القيم و الثقافة الأمريكية و الغربية.

و هناك من يشبه الانترنت”بحصان طروادةcheval de Troie “، الذي يحمل مجموعة قيم ضد الإنسانية (antihumaniste) و تتوسطها الرغبة في موت الإنسان و فنائه، فقد أقامت شبكة الانترنت نجاحها و تطورها على أساس القيم و الروابط الاجتماعية، التي أصبحت تشهد تأزما و تدهورا كبيرا”[lxi]. و من بين الحجج التي يستند عليها بعض المعارضين، قضية الأمية الالكترونية (illectronise)، التي تعتبر مصدر الحرمان و الرفض و المعاداة، و التي تعرف انتشارا حتى في الدول الغنية، و يعارض كذلك فكرة القرية الكونية الكاتب (schmuel Trigano) بحجة أنها تزيل استقرار الهوية الإنسانية، كما ينتقد (Jacques Ellul) عالم الرياضيات الأمريكي (Norbert Wiener)، الذي تصور فكرة مجتمع اتصالات و مجتمع يقوم على التقنية”[lxii]، أي ما يسمى اليوم بمجتمع المعلومات و الاتصالات، الذي تحتل فيه تكنولوجيات الاتصال و الإعلام حيزا كبيرا من الاهتمام، و يضيف (wolton) بعض الأمور السلبية التي تحسب على شبكة الانترنت، مثل “التعدي على الحياة الخاصة و حقوق المؤلف، سرية المعلومات، حقوق الإنسان، خطر الجنوح المعلوماتي، مراقبة المعلومات، و التجسس المعلوماتي”[lxiii]، الذي أصبح يأخذ أبعادا أخرى، خاصة بعد اكتشاف قضية “Echelon” التي تبين أن المخابرات الأمريكية تقوم بالتجسس و التصنت عبر شبكة الانترنت.

و عموما يمكن القول أن انعكاسات تكنولوجيا الاتصال هذه لا ينبغي أن تجعلنا نلغي تماما ايجابياتها و انعكاساتها السلبية، و لكن يجب أن نحدد الإجراءات الواجب القيام بها لتجنب كل هذه السلبيات، و تقليص انعكاساتها على الفرد و المجتمع.

  • خاتمة:

   إن استعمال تكنولوجيا الاتصال الحديثة بصفة عامة و شبكة الانترنت بصفة خاصة، أدت إلى حدوث عدة انعكاسات اجتماعية و ثقافية و علمية و نفسية…الخ، و ذلك سواء على المستوى الفردي للمستعملين أو على المستوى الجماعي في المجتمع ككل، و تبين لنا أن الآثار الاجتماعية و النفسية للإدمان الاتصالي كانت أعمق و أكثر مما يتصوره الكثير، و لاسيما على فئة الشباب و الأطفال، حيث لا يمكن ممارسة المراقبة بشكل كلي، في خضم الاجتياح الهائل لكافة أنواع تقنيات و تكنولوجيات الاتصال، حيث لا يكاد يخلوا نشاط يومي من استعمال لهذه التقنيات، و لهذا فإن التعرف على مختلف هذه الانعكاسات أمر ضروري لتجنبها و لإزالتها.

قائمة المصادر والمراجع :

[i] محمود علم الدين: تكنولوجيا المعلومات والاتصال و مستقبل صناعة الصحافة، القاهرة:دار السحاب، 2005م، ص138

[ii] مجد هاشم الهاشمي: الإعلام الكوني و تكنولوجيا المستقبل، عمان: دار المستقبل، 2001م، ص09

[iii] عيسى عيسى العسافين:المعلومات و صناعة النشر، دمشق:دار الفكر،2001م، ص 42.

[iv] [iv] J-J bertolus, renaud de la baume : la révolution sans visage, paris : Belfond, 1997. p.08.

[v] Philippe Breton:le culte de l’Internet, une menace pour le lien social, Paris:la découverte, 2000.p.09

[vi] محمد منير حجاب: المعجم الإعلامي، القاهرة: دار الفجر، 2004، ص 470

[vii] Serge Broulx : les communauté virtuelle construisent-elle du lien social ? » Colloque international sur : l’organisation medias, dispositifs médiatiques, sémiotique et des médiations de l’organisation, LYON, Université jean moulin19-20/11/2004

[viii] ibid.

[ix] Sahin Karasar: op.cit. p .03.

[x] محمد علي رحومة: الانترنت و المنظومة التكنو-اجتماعية،بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، 2005 ، ص 286.

[xi] DOMINIQUE Wolton : Internet et après ? une théorie critique des nouveaux medias, France : Flammarion, 1999. p.215.

[xii] Thompson j.b.« transformation de la visibilité » réseaux, n.100, (2000). p. 59.

[xiii] Serge Proulx : op. .cit. p.1-3.

[xiv] Philippe Breton : le culte de l’Internet. p. 105.

[xv] Louis L.: “impacts of net-generation attributes, seductive properties of the internet, and gratifications-obtained on internet use” telematics and informatics, n.20 (2003), pp.107-129.

[xvi] Judith Lazar: sociologie de la communication de masse, paris:Armand colin,1991. p 213

[xvii] فؤاد عبد المنعم البكري:الاتصال الشخصي في عصر تكنولوجيا الاتصال ، القاهرة: عالم الكتب، 2002، ص ص.128-133.

[xviii] Mehenni Akbal : quand la communication s’oppose a l’information, Alger : ed. Dahleb, 1997, p. 82.

[xix] Patrice flichy : une histoire de la communication moderne, espace public et vie privé, Alger : casbah, 2000, p.210.

[xx] معن خليل العمر: التفكك الاجتماعي، عمان: دار الشروق، 2005، ص 46.

[xxi] جمال العيفة: الثقافة الجماهيرية، عنابة: جامعة باجي مختار، 2003م، ص 15.

[xxii] عزي عبد الرحمان و آخرون: فضاء الإعلام، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية،1994م، ص 235.

[xxiii] حسن عماد مكاوي، ليلى حسن السيد:م.س.ذ.،ص 217.

[xxiv] حسن عماد مكاوي: تكنولوجيا الاتصال الحديثة في عصر المعلومات، القاهرة:الدار المصرية اللبنانية، د.ت، ص18

[xxv] Dominique Wolton : penser la communication, p.40.

[xxvi] طه عبد العاطي نجم: الاتصال الجماهيري في المجتمع العربي الحديث، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 2005م. ص 34.

[xxvii] سلوى عثمان عباس الصد يقي، أميرة منصور يوسف علي: م.س.ذ. ص ص 16-83.

[xxviii] Shahinaz M. Talaat: the effects of mass media on society, Cairo: Cairo university,2001, p.80

[xxix] Zartarian (V), noël (E) : cybermonde : ou tu nous mènes grand frère ?, Genève : Georg, 2000.p. 124.

[xxx] رأفت نبيل علوة: شبكات الاتصال ، عمان: مكتبة المجتمع العربي ، 2007م ، ص 42.

[xxxi] Guillaume Latzko-toth : a la rencontre des tribus IRC, thèse de magister, Québec : université Laval ,1998

[xxxii] Reid Elizabeth: communication and community on Internet relay chat, thèse de magister, Melbourne: université de Melbourne, 1991.

[xxxiii] Judith Horman : une exploration de l’interaction sociale en ligne lors de la réalisation d’activités d’apprentissage, thèse de magister, université de Laval : 2005.

[xxxiv] Valerie B.Serge F. Julia V.:études des échanges électroniques sur Internet et intranet, forum et courrier électroniques,[www.cnet.francetelecom.fr] ,(10/12/2007).

[xxxv] Kelly Mendoza: adolescent girls, chat rooms, and interpersonal authenticity, [http://mediaeducationlab.com/pdf/403-working%], (10/12/2007).

[xxxvi] Sofia A.GEORGE M.: « youth and internet, uses and practices in the home » COMPUTER&EDUCATION 10(2008) p 1016.

[xxxvii] Beatriz L.A.Mileham: « online infidelity in internet chat rooms: an ethnographic exploration “COMPUTER IN HUMAN BEHAVIOR 23. (2007) p.11/31

[xxxviii] احمد محمد صالح: «حياة على شاشة الإنترنت» مجلة العربي، ع515، (01/10/2001).. ص 2.

[xxxix] نفس المكان

[xl] Philippe Breton : le culte de l ‘Internet, op.cit. p.105.

[xli] « la révolution des communication » Encarta 2008.

[xlii] Papakadis M..: « people can create a sense of community in cyberspace (www.sri.com/policy/csted/reports/sandit), (10/04/2008).

[xliii] Beatriz L.A.Mileham: “online infidelity in internet chat rooms: an ethnographic exploration” computer in human behaviour, n.23 (2007), p.11-31.

[xliv] Picourt P.O.: op.cit. p.131.

[xlv] Philippe Bretton : le culte de l ‘Internet, op.cit. p52.

[xlvi] محمد محمود ذهبية : الإعلام المعاصر، عمان : مكتبة المجتمع العربي،2007م.. ص48.

[xlvii] الدسوقي عبده إبراهيم: وسائل و أساليب الاتصال الجماهيرية و الاتجاهات الاجتماعية، الإسكندرية: دار الوفاء، 2004م، ص 143

[xlviii] وليد أحمد المصري:م.س.ذ.

[xlix] Le forum des droits sur Internet : « quelle responsabilité pour les organisateurs de forums de discussion sur le web ? »08-juil2003, (www.foruminternet.org).

[l] www.wikipidia.fr, (01/12/2007).

[li] Michel (L.y.), Cheryl (A), Kimberly (J.M): “depressive symptomatology, youth internet use, and online interactions: a national survey» journal of adolescent health n.36 (2005), pp.9-18.

[lii] محمد محفوظ: تكنولوجيا الاتصال، الإسكندرية:دار المعرفة الجامعية، 2005م، ص 55

[liii] Gean-Christophe B : « l’appropriation des TIC » N.G, L.T., communication, société et Internet, paris : harmattan, 1998, p.351.

[liv] طه عبد العاطي نجم:م.س.ذ. ص87

[lv] Philippe B.:op.cit.p.123-125.

[lvi] Ibid, p.43.

[lvii] Dominique W. :Internet et après ?. p.199.

[lviii] Vahé Z. Emile N. :op.cit. p.07.

[lix] Philippe B.:op.cit.p.11.

[lx] J.C. Guédon : op.cit. p.74.

[lxi] Philippe B: .op.cit. p.119.

[lxii] Ibid, pp.16-17.

[lxiii] Dominique W.:Internet et après ?. p114.

عن د مصطفى جودت

أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك بجامعة الملك سعود ، وجامعة حلوان مدير تطوير المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود
error: Content is protected !!
التخطي إلى شريط الأدوات