التعليم والتشغيل زمن العولمة

لكلّ نموذج سياسي واقتصادي مؤسساته وتعليمه. كانت المدرسة الجمهوريّة في البلدان الغربيّة تمثل تكريسا لمبادئ الدّولة الأمّة وأداة لتوحيدها على حساب التنوّعات الجهويّة واللّغات المحليّة. أمّا مع العولمة وتراجع دور الدّولة الأمّة لحساب رأس المال الدولي المعولم فلقد تخلّى التعليم عن هذه الأهداف ليرتبط بما أصبح يعرف اليوم بالسوق العالميّة للشغل.

brain1في السّابق كانت المؤسسة التعليميّة تخضع لمراقبة الدّولة والسّلطات العموميّة وتساهم في غرس شعور الانتماء والولاء للأمّة سواء كان ذلك بالنسبة للبلدان المصنّعة أو حتّى البلدان التّي تحصّلت حديثا على استقلالها والتّي جعلت من التعليم أداة للخروج من التخلّف وبقايا الاستعمار واللّحاق بركب الحضارة. أمّا اليوم فلقد تغيّرت المعايير والأهداف. أصبحنا نعيش تنافسا بين المؤسسات التعليميّة العالميّة التّي تقيّم وفق نموذج دولي موحّد يضع مقاييس النجاعة. لكن هذا النموذج يلغي كلّ فرادة وخصوصيّة ويستند لمبدأ الإنتاجيّة أي نفس المعايير المعتمدة في الوحدات الصناعيّة وهو يتجاهل الظروف التّي وقع فيها تبليغ المعارف. من بين العلامات الجديدة لعولمة التعليم الفصل بين المجالات التعليميّة المتنوّعة. كلّ بلد يسعى لجلب الاستثمارات عليه أن يعدّ اليد العاملة الضروريّة والمتأقلمة مع حاجيات الصناعات والمؤسسات التّي تنوي الانتصاب. إذن هناك تنافس في سوق الشغل العالميّة وهذا الأخير أثّر حتّى على اليد العاملة في البلدان المصنّعة حيث توجّهت الرساميل العالمية إلى البلدان التّي تتوفّر فيها اليد العاملة الرّخيصة. خلال العقود الأخيرة تركّزت عمليّات نقل مواقع المؤسسات من البلدان الصناعيّة إلى البلدان النامية أساسا على القطاعات التّي تستوجب يدا عاملة لا تتميّز بالاختصاص والكفاءات المهنيّة وحتّى مؤسسات التجارة الالكترونيّة والخدمات الإعلاميّة فهي لن تتطلّب تشغيل مختصّين متحصّلين على شهادات عليا وفي عديد الأحيان يضطرّ صاحب الشهادة العليا للالتحاق بهذه المؤسسات في عمل لا يمتّ لدراسته وبأجر زهيد كما يحصل بالنسبة لمراكز التجارة الالكترونيّة.

احتلّت الهند والصّين قصب السّبق في هذا المجال. بالمقابل نشهد نزوحا يكاد يكون جماعيّا لأصحاب الشهادات العليا من البلدان النامية إلى البلدان المصنّعة وهذا خصوصا في ميدان الهندسة بجميع اختصاصاتها. في أفريل 2001 صدر عن المركز من أجل البحث والابتكار في ميدان التعليم والذّي تشرف عليه منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة OCDE التّي تظمّ البلدان المصنّعة تقريرا حول السيناريوهات المرتقبة لمدرسة القرن الواحد والعشرين. تكهّن الخبراء بتراجع عام عن التمدرس ولمستوى التدريس ويمكن أن نفهم هذا التراجع المهول لجودة التدريس بصفته شرطا أساسيا لخصخصة التعليم. هكذا تتراجع الدّول عن دعم التعليم العمومي وتتركه يتخبّط في أزماته فيفقد “نجاعته” ويصبح مجالا محفوفا بالمخاطر فتنهار العلاقة بين المؤسسة التعليميّة والمدرّسين والتلامذة ممّا يدفع بالأولياء للبحث عن مؤسسات تعليم خاصّة حتّى وإن كلّفهم ذلك مالا باهظا. منذ سنة 1996 ما فتئت منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة تؤكّد على أنّه على الطلبة أن يساهموا بقسط من كلفة الدّروس أو كلّها. من المعلوم أنّ التدريس أصبح يمثّل أكبر سوق إذ يدر على أصحابه ما يفوق 90 مليار يورو في السنة أي ما يعادل كلفة شراء السيارات. رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات والمخابر يؤكّدون على حقّهم في التدخّل في محتوى البرامج وفرض تصوّرهم لإعداد جيل من العاملين والمستهلكين. على سبيل المثال يمكن القول دون تردّد أنّ مخابر الأدوية تؤثّر بصفة مباشرة على برامج الدّراسة في كليّات الطبّ وهذا ما يفسّر إلى حدّ يعيد تقبّل الطلبة لبعض المسلّمات والمعلومات الخاطئة والتّي تبرز خصوصا من خلال فضائح الأدوية التّي ما فتئت تبرز على السّطح ممّا يبعث الرّيبة في نفوس المستهلكين.

مظهر آخر من مظاهر عولمة التعليم والتشغيل الاتفاق العام حول تحرير الخدمات AG.C.S الذّي أقرّته المنظّمة العالميّة للتجارة وهو يهدف إلى خصخصة الخدمات من صحّة وتعليم وثقافة. منذ الثمانينات لم يقتصر هذا الاتفاق الدّولي على التعليم والصحّة بل تعدّاه إلى القطاع السمعي البصري والبحوث العلميّة والملكيّة الفكريّة والطاقة والماء والمتاحف وقطاع التأمين. على كلّ البلدان فتح الحدود الوطنيّة والقبول “بالمزاحمة” الخارجيّة في السّوق الوطنيّة. هو إذن اتفاق إطاري قابل للتوسّع التّدريجي. بخلاصة ستتكفّل الدّولة الوطنيّة بالأمن والجيش فقط. من بين النقاط الهامّة لهذا المشروع إقرار مبدأ “التعاقد”. يمكن للمواطن التونسي أن يحصل على شغل في بلد آخر من دون أن يتمتّع بالحقوق التّي تتوفّر في البلد المضيف كقانون الشغل والأداء الموظّف على التشغيل بينما يتلقّى أجرته بعملته الأصليّة ووفق سلم الأجور ببلده. أمّا الإقامة فهي محدودة بمدّة العمل. لم يلق هذا المشروع الترحيب من عديد البلدان ولكن ذلك لم يحل دون مواصلة المنظّمة العالميّة للتجارة سعيها. من المعلوم أنّ الخدمات تمثّل 70 بالمائة من الاستثمارات الجمليّة في الخارج أي خارج حدود البلد الأصلي. من ناحية أخرى عديدة هي البلدان النامية التّي تنتصب فيها مؤسسات الخدمات العالميّة (بنوك- مؤسسات إعلاميّة – المواصلات – التجارة الالكترونيّة – مراكز الاتصال التلفوني…) وهذه الأخيرة تبحث عن اليد العاملة البخسة. يتقاضى المهندس والتقني السّامي أجرا زهيدا لا يتجاوز خمس (5/1) ما يتلقّاه المهندس في البلاد المصنّعة. جاء في تقرير المنظّمة العالميّة للتجارة: “التعليم مادّة معدّة للاستهلاك العمومي والخاصّ”. إذن العلم سلعة تباع وتشتري وتستهلك. فالتعليم والتكوين المهني عبارة عن استثمار حيويي يهدف لضمان نجاح المؤسسة الصناعيّة وعلى هذه الأخيرة أن تأخذ على عاتقها تكوين التلاميذ والطلبة. هكذا برزت للوجود مؤسسات تعليميّة خاصّة متعاقدة مع المؤسسات الصناعيّة مهمّتها إعداد اليد العاملة الضروريّة. لا مجال إذن لإضاعة الوقت. فمجتمع المعلومات لا يهتمّ بالثقافة العامّة والمعارف بقدر ما يهتمّ بالمعلومات المحدودة التّي سيقع تطبيقها في المؤسسة. يشتري التلميذ أو الطالب العلم من مؤسسة تعليميّة خاصّة وبأسعار باهظة ثمّ يتحصّل على كفاءة يعرضها في سوق الشغل. بطبيعة الحال يفترض ذلك استبطان التلميذ والطالب للعقليّة النيوليبراليّة وقبوله بالأمر الواقع وتجنّبه النقد وحتّى مجرّد التساؤل. اليوم تطالب المنظّمة العالميّة للتجارة الدول بما في ذلك البلدان النامية برفع أيديها عن التعليم العمومي خصوصا منه التعليم العالي وذلك لضمان شروط المزاحمة “الشرعيّة” بين مختلف مؤسسات التعليم. عندما نسمع أنّ هذه السلطة أو تلك تعدّ لمشروع لإصلاح التعليم وتخصّص لذلك لجانا وحلقات تفكير فإنّنا لا نقدر سوى التماسك عن الضحك لأنّ كلّ هذه المشاريع مطالبة بالتأقلم مع الاتفاقيّات الدّوليّة وأهمّها اتفاق تحرير الخدمات الذّي وقّعته غالبيّة البلدان وهو اليوم في طريقه نحو التطبيق ونتلمّس آثاره في انهيار التعليم العمومي وانتعاش التعليم الخاصّ سواء ذلك الذّي يشرف عليه مواطنون من نفس البلد أو مؤسسات تربويّة عالميّة تنتصب في البلاد بمقتضى الاتفاقيّات الدّوليّة.

-IX- نزيف “العقول”: المغرب العربي مثالا قد يختلف تعريفنا للعقول أو الأدمغة بما أنّه لكلّ واحد منّا عقل ولا يقلّ دور العامل والتقني في أيّ مجال عن دور باحث جامعي. فعندما يتعرّض البعض لمساهمة عقول البلدان النامية وبالأخصّ الأدمغة العربيّة في اقتصاد البلدان الغربيّة يتغافلون عن دور جيوش العمّال والمهنيّين في إعادة بناء اقتصاد البلدان الغربيّة وبالأخصّ أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية. لأسباب عملية سأحتفظ بالتعريف السائد للأدمغة أي العلماء والباحثين والجامعيّين والمهندسين والأطبّاء وبخلاصة أصحاب الشهادات العليا من كلّ اختصاص (علما بأنني لا أوافق على هذا التصنيف).

حسب تقرير لمنظّمة التعاون الاقتصادي OCDE صادر في 2003، كلّ سنة يهجر 400 ألف عقلا البلدان النامية باتّجاه البلدان المصنّعة وبالأساس الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبا واليابان. فمنذ التسعينات من القرن الماضي هاجر أكثر من 900 ألف عالم ومختصّ وباحث خصوصا في ميدان تكنولوجيا المعلومات وذلك من الصين والهند والفيدراليّة الرّوسية والبلدان العربيّة وقد تحصّل أغلبهم على جواز إقامة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة يعرف بـH1B يخوِّل لهم الاندماج في قطاعات البحث ومختلف فروع الصناعة وذلك لمدّة 6 سنوات قابلة للتجديد.

تشير إحصائيات الأمم المتّحدة أنّ أفريقيا قد خسرت 40 مليار دولارا بين سنة 1992 وسنة 1996 نتيجة لهجرة الأدمغة. حسب المنظّمة العالميّة للهجرة OIM بلغت هجرة العقول الأفريقيّة إلى أوروبا 27 ألف مواطنا وذلك في الفترة بين سنة 1960 وسنة 1975 وقد ارتفع هذا العدد إلى 40 ألف بين سنة 1975 وسنة 1984. يشير تقرير برنامج الأمم المتّحدة للتنمية PNUD لسنة 2001 إلى أنّ أكثر من 21 ألف طبيب نيجيري يعملون بالولايات المتّحدة الأمريكيّة. ستون بالمائة من الأطبّاء وأطبّاء الأسنان النيجيريّين والذين تلقوا تكوينا في بلادهم خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي غادروا نيجيريا للاستقرار بالبلدان الغربيّة. لقد كان هناك ما يقارب 1600 طبيبا في زمبيا واليوم تراجع هذا العدد إلى 400. فلقد هاجر الأغلبيّة إلى أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة أو بعض البلدان الأفريقيّة المجاورة. عدد الإطارات الأفارقة الذين يعملون بالولايات المتّحدة الأمريكيّة يفوق عدد الإطارات العاملين بأفريقيا. ابتداء من سنة 1990 هاجر أكثر من 20 ألف عقل إفريقي سنويّا نحو البلاد المصنّعة. حسب إحصائيات الأمم المتّحدة يبلغ عدد المهاجرين 150 مليون مواطن من بينهم 20 إلى 30 مليون عربي. في العقود الأخيرة وبفعل الحرب الأهليّة في لبنان وحرب الخليج الأولى والثانية إضافة إلى الصّراع في الصومال عرفت الهجرة نحو البلدان الغربيّة زيادة ملحوظة.

في الجزائر، خلافا للسنوات السبعين، حيث تركّزت الهجرة على بعض المناطق كمنطقة القبائل والأوراس وشرق البلاد تشمل الهجرة اليوم كلّ مناطق الجزائر. يواجه غالبية المهندسين المتخرّجين من المعاهد العليا بالجزائر إلى البطالة كما تراجع مستوى معيشة المهندس الجزائري وتدحرج موقعه في سلم الارتقاء الاجتماعي وهذا خصوصا بفعل خصخصة قطاعات هامّة من الاقتصاد وتراجع الطلب على المهن المختصّة والإطارات التكنولوجيّة العليا. بعد أوروبا هاهي الإطارات العلميّة تكتشف البلدان الأنغلو-سكسونية وهذا يفسّر الاهتمام المتزايد باللّغة الأنجليزيّة. لقد تأثّرت كلّ البلدان النامية بالسياسات الاقتصاديّة الجديدة التي فرضتها أحكام العولمة وتحرير الاقتصاد ولكن هذا التأثير كان أشدّ وطأة على البلدان التي اعتمدت في السابق سياسة تخطيط ترتكز على القطاع العمومي وعلى تدخّل الدولة المباشر في تسيير وإدارة الاقتصاد ومنها الجزائر. فلقد أحدثت هذه النقلة السريعة هزّة عميقة في النسيج الاقتصادي وانعكست على التعليم والبحث والشغل. 25 بالمائة من شباب الجزائر هم في حالة بطالة وجزء هام منهم متحصّل على شهادات عليا. بين سنة 1992 وسنة 1996 خسرت الجزائر 40 مليار دولارا بفعل هجرة العقول. حسب دراسة قام بها مجلس عمادة الأطبّاء الجزائريّين هناك 3 آلاف طبيب جزائري يعملون في فرنسا بصفة غير قانونيّة ويبلغ هذا العدد 500 بكندا. مئات من الأطبّاء الجزائريّين يعملون في فرنسا في ظروف مزرية في الوقت الذي يجري فيه عديد الأطبّاء الأجانب عمليّات جراحيّة في المصحّات الجزائريّة في آخر الأسبوع بصفة غير قانونيّة ويتقاضون أجورا عالية وبالعملة الصّعبة. في فرنسا يعمل 3 آلاف طبيب جزائري لم تقبل وزارة الصحّة الفرنسيّة إدماجهم في الهياكل الصحّيّة وهم يقومون بدور معوّض الطبيب المختصّ أو القائم مقام المختصّ (F.F.I) Faisant Fonction d’Interne ولا تعترف فرنسا بشهاداتهم رغم كفاءتهم العالية. في الجزائر هناك 45 ألف طبيب وما يقارب 10 بالمائة من أصحاب الشهادات العليا و800 طبيبا في السنة لا يحصلون على شغل.

في المغرب الأقصى يتخرّج سنويّا 1800 مهندسا. تبلغ كلفة إعداد 240 مهندسا 1,2 مليون درهما في السنة. يساهم كلّ مهندس مغربي يعمل في البلاد المصنّعة في خلق قيمة مضافة سنويّة تقدّر بـ50 ألف دولارا. لتكوين مهندس مختصّ في الاتّصالات يجب توفير مليون درهما ككلفة دراسة تدوم خمس سنوات.

خلال العقود الأخيرة نشطت جماعات تُعرف بـ”صيّادي الأدمغة”. ففي المغرب يهاجر ما بين 60 و70 بالمائة من المتحصّلين على الشهادات العليا من بعض المدارس العليا المغربيّة خصوصا في اختصاص الهندسة.

في تونس ارتفع عدد المتحصّلين على شهادات عليا من 5 آلاف في عقد واحد إلى 60 ألف بينما ارتفع عدد المتحصّلين على كفاءات مهنيّة من 20 ألف إلى 75 ألف وفي نفس الفترة. يتكوّن النسيج الصناعي التونسي أساسا من المؤسّسات الوسطى والصغيرة وذلك لا يتطلّب درجة عالية من التأطير. حسب إحصائيات وزارة الخارجيّة التونسيّة هناك 74 ألف تونسي من أصحاب الكفاءات العالية موزّعون على ما يقارب 61 بلد في العالم. من بين هؤلاء يوجد 4200 عالم وباحث. 17 بالمائة من الكفاءات التونسيّة العالية جدّا تعمل بفرنسا و13 بالمائة منهم في الكندا و11 بالمائة منهم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة و10 بالمائة في ألمانيا. من بين الأدمغة المهاجرة يحتلّ المهندسون المرتبة الأولى. في دراسة قامت بها جمعيّة التونسيّين المتخرّجين من المدارس العليا الفرنسيّة ATUGE نشرت في سنة 2008 تبيّن أنّ هناك اهتماما متزايدا من طرف المجامع الدّولية بالكفاءات التونسيّة مهما كان اختصاصها لكن هناك عناية خاصّة بالمهندسين في الإعلاميّة. فاليوم لا تخلو مؤسّسة عالمية مختصّة في الإعلاميّة من المهندسين التونسيّين. في السودان 17 بالمائة من الأطبّاء وأطبّاء الأسنان و20 بالمائة من أساتذة الجامعات و30 بالمائة من المهندسين هاجروا باتّجاه البلدان المصنّعة. كلّ سنة تخسر البلدان العربيّة ما يقارب مليار ونصف من الدّولارات نتيجة لهجرة الأدمغة. كلّ سنة تخسر البلدان العربيّة 50 بالمائة من أطبّائها و23 بالمائة من مهندسيها و15 بالمائة من علمائها وهؤلاء يهجرون بلدانهم باتّجاه أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا.

ففي بريطانيا 31 بالمائة من الأطبّاء هم من أصل عربي. تستقطب الولايات المتّحدة وبريطانيا وكندا مجتمعة 75 بالمائة من الكفاءات العلميّة العربيّة. منذ سنة 1970 خسر العالم العربي 11 مليار دولارا في شكل هجرة عقول وتقدّر الجامعة العربيّة خسارة البلدان العربيّة الجمليّة من هجرة العقول العربيّة والكفاءات العالية بـ200 مليار دولارا.

ارتفعت هجرة الأدمغة مع العولمة التي عمّقت الفجوة بين البلدان المصنّعة والبلدان النامية وتركيز البلدان المصنّعة على ما يعرف بالهجرة الموجّهة. في السابق كانت أوروبا بحاجة ليد عاملة غير مختصّة لإعادة بناء اقتصادها وقد شغل العرب الأعمال المضنية والخطيرة خصوصا في قطاع البناء أمّا اليوم فأوروبا تنتقي المهاجرين وتوجّه الهجرة بحيث تستقطب الكفاءات العالية.

لماذا تهاجر الأدمغة؟ بداية نشير إلى أنّ مناهج التعليم والبرامج المقرّرة في الجامعات العربيّة تكاد تكون نسخة لبرامج البلد المستعمر وهذا جليّ في عديد الاختصاصات. تمكّن الطلبة في فترة أولى من الحصول على دبلوم معادل للدبلوم الأوروبي ومعترف به ثمّ ما لبثت البلدان الأوروبيّة أن طالبت بمعادلة هذه الشهادات وذلك من جانب واحد وهكذا تضمن استقطابها لأرفع الكفاءات. أمّا التكوين المستمرّ بعد مرحلة التعليم الجامعي فهو محدود ويمكن الإقرار أنّ الجزء الأهمّ منه يقع خارج الحدود وفي البلاد المصنّعة. تواجه المثقّفين ورجال العلم والباحثين العرب صعوبات جمّة لعلّ أهمّها ظروف العمل وانعدام البنية العلميّة والتقنية وهيمنة عقليّة بيروقراطيّة داخل العائلة العلميّة وانعزال البحث العلمي عن الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فخلال الـ50 سنة الأخيرة هاجر ما يقارب 500 ألف عربي من الكفاءات المهنيّة العالية والباحثين والجامعيّين نحو البلدان الصّناعية. 50 بالمائة من بين هؤلاء أطبّاء و15 بالمائة من الباحثين في ميادين العلوم المختلفة والمهندسين. يمثّل العرب ما بين 1 و2 بالمائة من المسؤولين الرّئيسيّين عن المؤسّسات العلميّة المختلفة في أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وهم يساهمون بذلك في الحركة الاقتصاديّة والعلميّة لهذه البلدان.

على مدى قرون مثّل حوض البحر الأبيض المتوسّط مجالا علميّا موحّدا ومتداخلا وهذا رغم التباينات الثقافيّة والدينيّة. مع الثورة العلميّة التي شهدها العالم الغربي وما رافقها من تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة تعمّقت الفجوة داخل هذا المجال وأصبح جنوب البحر الأبيض المتوسّط يستهلك ما ينتجه شماله بما في ذلك نموذج تنميته واختياراته وتقنياته ومناهج تعليمه. اليوم نعيش نهاية مطاف هذا التوجّه. ففي الغرب هناك أزمة اقتصاديّة ومالية وأزمة تعليم وبحث علمي وقد انعكس بشكل أحدّ على بلدان الجنوب. فهناك قطيعة تامّة بين التعليم وحاجيات المجتمع وتفكّك للأنسجة الاقتصاديّة التي برزت في العقود الأولى للاستقلال. لم تستعد بلدان الجنوب لهذه التحوّلات بما أنّها في حقيقتها مفروضة من طرف البلدان المصنّعة وهكذا غابت الأدوات القادرة على مواجهة الأوضاع الجديدة. هلْ تعود بلدان الجنوب والبلدان العربيّة إلى نموذج التنمية الذي يعتمد على الدولة والقطاع العمومي؟ لقد أفلس هذا النموذج بما أنّه ساهم في خلق بيروقراطيّة تكنوقراطيّة عطّلت الابتكار وكبّلت القوى الخلاقة في المجتمع؟ أمْ تستسلم البلدان العربيّة للقوى الفاعلة والمهيمنة وتتخلّى عن كلّ نظرة إستراتيجية تسمح باستقطاب كلّ القوى الحيّة بما في ذلك “الأدمغة”؟ هجرة “الأدمغة” العربيّة ليست سوى نتاجا لنهج تنموي واختيارات تكنولوجيّة وعلميّة وتعليميّة معزولة عن الواقع البيئي والاجتماعي المحلّي. اليوم نعيش أزمة العقلانيّة العلميّة التي سادت منذ عصر الأنوار وما ترتّب عنها من كوارث بيئيّة واجتماعيّة. فهذه العقلانيّة الوحيدة الجانب والتي أدّت إلى هيمنة النظرة الجزئيّة الضيّقة وساهمت في عزل الاختصاصات وهيمنة الجانب النفعي السريع على الجانب الاستراتيجي وتراجع البحوث العلميّة الأساسيّة لصالح البحوث التقنيّة الآنية وذات المردود السريع وأهملت البعد البيئي وفصلت المهندس الزراعي عن المزارع ومكّنت حفنة من الخبراء من الاختيار والقرار بديلا عن المواطن والشعب، هذه العقلانيّة هي التي أفرزت الأزمة التي يعيشها قطاع البحوث والعلوم والتي تشمل كلّ العالم جنوبه وشماله. لن تجدي الحلول الظرفيّة والمحلّيّة أو تلك المعزولة لدرء هجرة “الأدمغة” فحتّى وإن وفّرنا الظروف المادّيّة والعلميّة لاستقطاب أجزاء من الذين اختاروا العمل في البلدان المصنّعة سيظلّ السؤال المطروح: أي تقنية نريد وأيّ علوم، أيّ زراعة وأيّ تعليم نروم؟ أيّ سياسة صحّيّة وغذائيّة نبتغي؟

-X- تعليم الجهل في مجتمع المعلومات في كتابه “تعليم الجهل” يتعرّض المفكّرJean Claude Michéa إلى الاستنتاج الذي خلص له 500 رجل سياسي من روّاد النشاط الاقتصادي والعلمي في العالم وذلك سنة 1995 تحت إشراف مؤسّسة غورباتشيف. فلقد أقرّوا بصفة قطعيّة ولا تقبل النقاش أنّ قرننا الجديد سيحتاج فقط لعُشُرَيْ (2/10) سكّان العالم وذلك للحفاظ على النشاط الاقتصادي للعالم. على ضوء هذا التقرير يصبح السؤال الملحّ هو: “ماذا سنفعل بالـ80 بالمائة من السكّان الزائدين على اللّزوم وغير المجديين؟ هل سنتخلّص منهم؟ هل سنعدٌ لهم برنامجا خاصّا وهل سيمثّل هؤلاء وزرا على الأقلّيّة النشطة والفاعلة؟ أخيرا تفطّن برجنسكي مستشار الرّئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر للحلّ. إنّه على حدّ تعبيره The tittaynment أي لنتركهم وشأنهم.

تقتضي هذه الخطّة صياغة وصفة خاصّة للأغلبيّة تكون خليطا من اللّهو الفارغ وبلادة الذّهن وتوفير الطعام الضروري وذلك كي يحافظ هؤلاء “الزائدين على اللّزوم” على بشاشتهم وإحساسهم بالغبطة في عالم يعرف تثبيط المعنويات والإحباط. لنجعلهم يعيشون في انشراح وزهو وذلك عملا بالمثل العربي المعروف: “وأخو الجهالة في الجهالة ينعم”. كيف سيكون نظام التعليم وبلغة الاقتصاد كيف ستكون كرّاس شروط تلقّي المعرفة التي ستخصّص لكلّ فئة من هؤلاء.

بطبيعة الحال لكلّ نصيبه وحظّه وحصّته. فلا يمكن أن نساوي بين من فاز سهمه من المعارف والحكمة وبين من فاض جهله. فالكثرة لأصحاب العقل واللّبّ والنحيزة، أمّا الفتات والنزر والتافه والزهيد والطفيف فللجاهل والرّكيك والمأفون. من أراد المعرفة الراقية عليه بالوجاهة والنباهة وأن يشدّ الرّحال إلى المراتب السَّنية، أمّا الخَمُول والأبله فلا أمل له باللّحاق بركب العلوم المعاصرة والنهل من المعارف الجديدة. كيف تتجسّد هذه الخطّة الحكيمة؟ يقول برجنسكي:

أوّلا : علينا تعريف قطب الامتياز أي هؤلاء الذين بمقدورهم التشبع بالمعارف الدّقيقة والعميقة والخلاّقة والذين يتميّزون بسعة النّظر وبقدرة على إعمال الفكر والتمحيص والابتكار وهؤلاء يمثلون على أقصى تقدير 5% من سكّان المعمورة.

ثانيا : بالنسبة لأصحاب القدرات الذهنيّة المتوسطة علينا إعداد معارف سريعة التآكل (jetables) وغير ذات جدوى بحيث يتأقلم هؤلاء مع المعارف المتوفّرة ويتقبلونها في كلّ مرّة. هؤلاء لن يطالبوا بالخلق والابتكار ولن يسمح لهم باستقلال الفكر بل بالحفظ والاستجابة والتطبيق. يمكن لهم أن يحصلوا على معارفهم بواسطة تقنيات الاتصال والإعلام.

ثالثا : أخيرا وبالنسبة للأغلبيّة المتبقيّة أي هؤلاء الذين لا يستقرّون عل علم أو مهنة أو اختصاص والذين لا يمثلون سوقا مربحة والمعرّضين للتهميش بأعداد متزايدة فإنّه من غير المجدي أن نقدّم لهم معارف ومعلومات لأنّ ذلك سيكون شديد الكلفة ولا طائل منه بل قد يمثّل ذلك خطرا على استتباب الأمن الاجتماعي. لهؤلاء “تعليم الجهل” على حدّ قول الفيلسوف « Jean Claude Michéa » . تحضرني في هذا المقام قولة شهيرة لفيلسوفنا العربي ابن رشد: “يجب أن لا نثبت التأويلات إلاّ في كتب البراهين لأنّها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلاّ من هو أهل البرهان” (فصل المقال)، إذن هناك الخاصّة من الفئة النيّرة والعامّة الخرقاء التي لا رجاء من تثقيفها وإطلاعها على المعارف المتقدّمة. يقول المفكّر « Guy Debord » : “يعمل المجتمع الجديد على تعليم العامّة العجز عن التفريق بين ما هو مهم وما هو تافه وغير ذي قيمة”.

إذن علينا بتهيئة كل الظروف لترويج المعارف العلميّة والتقنيّة في أوساط النخبة التي ستكون الأداة الفعّالة لفرض منطق العولمة الجديد، أمّا الـ 95% من البشر فنصيبهم من الحياة المعاصرة مشهد. ستتكفّل القلّة النيّرة بتسيير الأمور وتوجيهها الوجهة الصّحيحة. أليست هذه مدينة أفلاطون الفاضلة التي يحكمها علماء مقتدرون؟ ماذا نريد أكثر من ذلك؟ لنحتكم للقدر الوراثي. لكلّ جيناته، فثمّة من هو مهيّأ بالطبع للعلوم والمعارف وثمّة من كانت جيناته فقيرة ورثّة وهذه حكمة الزمان ولا نقدر على ردّ أمر لا حيلة لنا فيه.

يجرّنا الحديث عن تعليم الجهل إلى ما يعرف اليوم بأزمة التعليم التي تعصف بالبلدان المصنّعة وببلدان الجنوب. فنحن نعاين تراجع المستوى الثقافي والعلمي للتعليم الذي يراد منه إنتاج النخب وتكوين التلاميذ وفقا للاختيارات والتوجّهات التي ذكرناها.

في مجتمع المشهد والصّورة والمعارف المتآكلة المعدّة للغالبيّة أصبح المعلّم أو الأستاذ منشّطا وفقد دوره التربوي والبيداغوجي. لقد تحوّلت المعاهد إلى مراكز لتعليم الجهل على حدّ قول « Jean Claude Michéa » بحيث تضاءلت القدرة النقديّة للتلميذ وذلك بالتوازي مع تضخّم بنوك المعلومات. يشير نفس المفكّر إلى إفلاس سياسة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكيّة ويشخّصها كما يلي : “مدارس ابتدائيّة تنتج ملايين الأمّيين وتعليم ثانوي يسمح للتلميذ باختيار خليط من النشاطات وتعليم عالي يستقطب “أحسن” التلاميذ و”أنجبهم” و”أحسن” الأساتذة الأجانب لمراكمة أكبر عدد ممكن من جوائز نوبل. إنّه تعليم يسير بنسقين…”. يعود بنا المفكّر إلى كتابات Christopher Lasch حول النرجسيّة وعن المجتمع الجديد: “لا يريد المجتمع كثيرا من العقول القادرة على الخلق وعلى تسيير الآلات ولكنّه بالمقابل يبتغي عددا هامّا ومتزايدا من الأميّين لكي تستغلّهم آلات الدّعاية والإعلام وتبث فيهم سمومها…”.

باسم التقدّم ومواكبة العصر وتوفير نفس حظوظ النجاح وتوحيد المناهج اتفق اليمين واليسار على القضاء على ما يعرف في البلاد الأوروبيّة بالتعليم الجمهوري. ففي حين اعتقد المحافظون أنّه لا يمكن إيصال المعارف المتقدّمة لعامّة الشعب الذين يفتقدون القدرة على التفكير والتمييز والتعبير بوضوح فلقد عمل الرّاديكاليون على الحطّ من مستوى التعليم بدعوى تمكين الغالبيّة من المعرفة. فالدعوة إلى التحرر المبالغ فيه والتخلص من كل ضغوط المجتمع والتي واكبت حركة الشباب في السنوات الستين في أوروبا قد ساهمت في بروز العقلية النيوليبرالية الفاحشة بل أننا نجد أن من بين زعماء وأقطاب النيوليبرالية ودعاة العولمة زعماء سابقين في هذه الحركة اندمجوا في الأجهزة البيروقراطية وبدؤوا يروجون للتوجهات الجديدة. فاليوم تتوجّه العولمة إلى جيوب المقاومة المتبقيّة : الثقافة، التعليم والفلاحة. تماما كما توصّل لذلك المفكّر اليوناني Castoriadis يخلص Jean Claude Michéa إلى أن المجتمعات المعاصرة ما كان لها أن تستمرّ لو لا اعتمادها على هياكل انثروبولوجية وبيئيّة سابقة (كالضمير المهني وإتقان العمل وحب المطالعة والشرف…) وهي اليوم تقطع الغصن الذي تجلس عليه.

مفارقة هذا العصر هو أنّه بقدر ما يتشنّج الخطاب حول معجزات القرن فيوصف المجتمع المعاصر بمجتمع المعرفة ومجتمع المعلومات وبقدر ما تطنب وسائل الإعلام في الحديث عن الثورة الرقمية بقدر ما نعاين تراجع الثقافة عامّة ولا نقصد بذلك الأدب والفكر والفنّ فقط بل كلّ مجالات المعرفة وهذا ما دفع بالمسؤولين في الشمال والجنوب إلى إقرار إصلاحات في التعليم لم تنفكّ منذ عقود لكن دون أن تبلغ الأهداف والمرامي المرجوّة. “لتتفتّح المدرسة على المجتمع والمحيط الخارجي! لنجعل منها مصنعا للمعارف والتقنيات! من تحكّم في المعرفة تحكّم في كلّ شيء!…”. خلف هذه الشعارات الجوفاء تختفي حقائق مهولة وصارخة لعلّ أهمّها تدنّي المستوى التعليمي والثقافي. ففي فرنسا ما بين 15% و20% من التلاميذ المحرزين على الشهادة الابتدائيّة لا يقدرون على القراءة. في دراسة نشرتها مؤخّرا جريدة “واشنطن بوست” يشير صاحب الدراسة إلى أنّ الغالبيّة من التلاميذ الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة لا يعرفون أين توجد العراق هذا البلد العربي الذي تحتله دولتهم كما أنّ نصف هؤلاء التلاميذ يعجزون عن تحديد موقع نيويورك في خريطة الولايات المتحدة الأمريكيّة بينما كانت إجابة 30% من هؤلاء التلاميذ حول سؤال يتعلّق بعدد سكان الولايات المتحدة الأمريكيّة بأنّه يساوي مليارا و20 مليون نسمة!

هكذا يفرز التعليم العصري جيلا منقطعا عن ماضيه وحتى حاضره. في ملف أعدته مجلة L’opinion الفرنسيّة نقرأ ما يلي: “أصبحت مهمّة المعاهد تتجسّد في إنتاج “علوج” أو “تلاميذ-حرفاء وزبناء” لا يحذقون سوى 50 تعبيرا تمكنهم على أقصى تقدير من بعث إرساليات إلكترونية عبر الجهاز المحمول (SMS) أو من الترشّح لبرنامج “ستار-أكاديمي”. تقف وراء هذا الانهيار المريع إرادة جامحة لفبركة “تلاميذ زبائن” يتلخّص دورهم في تنشيط سوق التعليم وهو أكبر سوق للقرن الواحد والعشرين حيث يبلغ رقم معاملاته الدولية 90 مليار دولار (إحصائيات سنة 2002) وتقدّم لهؤلاء التلاميذ “بضاعة – تعليميّة” ومعلومات متآكلة Jetables. يشخّص المفكّر Jean Claude Michéa حقيقة سياسات التعليم فيقول : “لقد تقدّم الجهل أشواطا ولا يعود ذلك لخلل أو لأخطاء طبعت سياسات التعليم. إنّ تعليم الجهل شرط من شروط بقاء المجتمع”…فلقد أصبحت المعاهد تنتج جهلة غير واعين بجهلهم…”. بالنسبة للمسؤولين عن سياسات التعليم يكمن الحلّ في تعميم الحواسيب والإنترنت في المعاهد. لكن هذه الوسيلة تضلّ مكمّلة ولا يمكن لها بحال من الأحوال أن تعوّض قدرات التلميذ واستقلاله الفكري. فحتّى وإن وفّرت هذه التقنيات النّصوص والمعلومات بغزارة لم تشهدها العصور السابقة كيف لتلميذ لا يحذق القراءة والكتابة ويفتقد القدرة على التّمييز أن ينتفع من هذه التّقنيات. لا يمكن أن تنحصر الحلول في حلول تقنيّة بحتة. فالحواسيب لا تعوّض العلاقة المباشرة بين التلميذ والنّص. هناك خلط مقصود بين المعلومات والمعارف وهذه الأخيرة تُكتسبُ بمجهود خاص وبتطوير القدرات الذهنيّة على التحليل والتّفكير والنقد والبناء والخلق والابتكار وقديما قيل :”العلم في الرّأس ليس في الكرّاس”.

لقد تحوّلت المعاهد إلى ما يشبه السّوق، ففي الولايات المتّحدة الأمريكية سمحت آلاف المعاهد لقناة Chanel One ببثّ برامجها التلفزيّة وومضاتها الإشهاريّة حول المشروبات الغازيّة والهمبرغر، بينما وفّرت مؤسّسة Zapme مجانا حواسيب للمعاهد مع اشتراك في الإنترنت مقابل التزام مديري المعاهد بأن يفرضوا على التلاميذ استعمال Zapme لوقت لا يقلّ عن 4 ساعات في اليوم. في بريطانيا دخلت شركة Capital Stratégies البورصة وأقرّت علامتها المصرفيّة Education U.K.. حقّقت مضاربات هذه المؤسّسة في البورصة أرباحا تعدّ بثلاث أضعاف رأس مالها وذلك في ظرف 4 سنين وهي تعرف ارتفاعا سنويّا يقدّر ب240 بالمائة. حتّى عمليّة مراقبة التعليم لم تعد تخضع لتفقديّات وزارة التعليم بل أوكلت إلى شركات خاصّة من جملة مهامّها توفير الأساتذة البدلاء. هكذا إذن تحوّلت المعاهد إلى Fast-Food أو همبرغر المعرفة. “تعليم الجهل” هو أحد مرتكزات ودعائم مجتمع المعلومات!

-XI- التربية كعلم وتكنولوجيا

لا تقتصر التربية على المؤسسات التعليميّة لكنّها واقع شامل وعام. فالمسألة تتجاوز العلاقة بالمعارف إلى جملة السيرورات التّي تجعل من المجتمع قادرا على التبليغ والتواصل وهو ما يجعل أعضاءه متماسكين. فلضمان بقائه وتواصله يحتاج المجتمع إلى خلق أفراد يتطابقون معه وحتّى المجتمعات الأكثر دكتاتوريّة وشموليّة تحتاج بالضرورة إلى نوع أنثروبولوجي يتطابق معها وهي تقدّم تربية تعكس الاتجاه الذّي يتماشى مع طبيعتها وكذلك هي حال المجتمعات التّي نطلق عليها بالدّيمقراطيّة. في الحقيقة لا وجود لقيمة أصليّة ومطلقة ولكنه صافي ومحدّد مسبقا للتربية مهما تعدّدت المجتمعات وتباينت. فلكلّ مجتمع تربيته والتربية كما نفهمها لا تقتصر على مجال أو تاريخ محدّدين من الحياة. هي تبدأ مع نشأة الطفل وتنتهي مع وفاته. يمكن لها أن تكون عامّة وشاملة أو خاصّة ومحدودة ومحليّة (في القرية أو في الحيّ) أو مرتبطة بمكان العمل (المصنع، النقابة، المؤسسات المهنيّة). هي عمليّة نقل وإيصال وتبليغ لدلالات وتصوّرات ذهنيّة واجتماعيّة وقيم تعطي للحياة الجماعيّة معنى لكي يتمكّن الأفراد المكوّنين للمجتمع وللجيل القادم من الاندماج في المجموعة التّي سبقته واحتضنته. لذلك ترانا مجبرين في مقاربة التربية إلى العودة إلى الظرف التربوي الجديد وإلى التصوّرات الذّهنيّة الاجتماعيّة الخاصّة بكلّ مشروع مجتمعي. لقد كفّ هذا المشروع منذ زمن بعيد أن ينحصر في تطوير الإنتاج والاقتصاد إلى مشروع نعتبره جنونيّا ومهولا تمثّل في التّوسّع اللاّمتناهي والتحكّم العقلاني المزعوم في الكون ونعني بذلك مشروع التحكّم الكلّي في المعطيات الفيزيائيّة والبيولوجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وهذا التوسّع اللاّمتناهي لا ينحصر في تطوير ما يعرف بالقوى المنتجة بل في التقدّم التكنولوجي وعقلنة كلّ النشاطات من خلال تقسيم للمهمّات ما فتئ يتعمّق ويتوزّع وتقدير كمّي كوني وحساب وتخطيط. بخلاصة التنظيم كهدف في حدّ ذاته. هذا التصوّر الغالب في المجتمعات الغربيّة والذّي تقبّلته كلّ المجتمعات الأخرى تحت مسمّيات عديدة لعلّ أهمّها الحداثة قد اخترق كلّ المجالات من الدّولة إلى العائلة والشغل والتربية والتعليم أي كلّ مظاهر الحياة الاجتماعيّة. في الحقيقة لقد بنيت الحداثة على قاعدة رفض الماضي وإلغاء الذاكرة. فزمان الحداثة خطي يتسارع إلى الأمام و يدعي أنه يلغي ما سبقه فيصبح الحاضر زئبقيا ينفلت بمجرد حضوره. لكن الحداثة تتناقض مع ذاتها بما أنها تخلق “تراثها” و ذاكرتها دون أن تشعر أو تعي بذلك. فالدعوة إلى القطع مع الماضي خلّف رد فعل لدى عامة الناس تجسد في شعور بالريبة والخوف من زوال الذاكرة والتاريخ خصوصا وأن المستقبل المضمون بعيد المنال ومؤجل إلى تاريخ غير محدود (كما تدل على ذلك الصفة التي تلصق بالمجتمع: مجتمع ما بعد الصناعة- ما بعد الحداثة – ما بعد التاريخ – ما بعد … ) كما أن تأزم الحاضر وبروز مخاطر عديدة (بطالة – تهميش أجزاء متزايدة من الشعب – مخاطر بيولوجية – تلوث – تلوث الطعام بمواد كيميائية وبيولوجية – حروب – انخرام الأمن – إجرام …) تعمق هذا الشعور .

خلال العقود الأخيرة انتقلنا من البيداغوجيا التّي تقودها رؤى فلسفيّة وسياسيّة إلى علوم التربية التّي لا تعترف سوى بالعلم الخالص. فسواء تعلّق الأمر بالمدرسة أو بالنشاطات التّي ترتبط بالتكوين والتربية فلقد خضعت كلّها لإدارة العلوم والتكنولوجيا المعاصرة. صرّح أحدهم: “التربية علم وتقنية. لماذا ترفضون تطبيق مبادئ الحداثة على أنظمة التعليم والحال أنّكم لا تتوانون عن إدماجها في طبخكم وسيّاراتكم وورشاتكم؟”. إذن لنطبّق على الطفل هذه الحداثة التّي نطبّقها على المطبخ والسّيّارات والمحرّكات ولنجعل منه موضوعا علميّا. خلال العقود الأخيرة تحوّلت كلّ تراكمات سيكولوجيا الطفل والشاب التّي تأسّست على قاعدة دراسة تاريخ الأفكار البيداغوجيّة وأساليب التربية التّي نجحت في محو كلّ هذه المكاسب.

تحوّل المدرّسون من مربّين إلى عناصر تقدّم خدمات تقودهم في ذلك العلوم الخالصة وعلى هذه الخدمات أن تستجيب لمقتضيات الحداثة الجديدة أي أن تتأسّس علميّا وتكون قابلة للتقييم العلمي. لقد هيمن هذا الاتجاه خصوصا في البلدان الغربيّة وتكرّس في إعداد المدرّسين وتحويل التعليم إلى تعدّد لكفاءات قابلة هي الأخرى للتقييم. من سخريّة التاريخ أن يسقط جزء هامّ من المدرّسين في اللعبة المهنيّة المحضة محاولين جني ما يمكن جنيه حتّى وإن اقتضى الأمر أن تعمّ التايلوريّة التّي عرفتها المصانع المؤسسة التعليميّة. لكن رغم كلّ ذلك من غير الممكن اختزال التربية في مجرّد تحكّم في الكفاءات والحال أنّها كانت في السّابق تعتبر فنّا من الفنون. العلم الخالص كما الحداثة الخالصة لا يعترفان بالفنّ وبهذا المفهوم “المتخلّف” للتربية. من بين الكفاءات المطلوبة نذكر المتعلّقة بتقنيات المعلومات والاتصال وذلك تماشيا مع الثورة السيبرنيتيكيّة التّي برزت منذ الثمانينات. كلّ مشاريع الإصلاح تؤكّد على ضرورة دمج هذه التقنيات. هكذا برز مفهوم تقنيات الاتصال الموجّهة للتربية من انترنت وفيديو وأقراص وهذا دون أن يصحب ذلك أيّ نقد لهذه التقنيات وبالخصوص للانحرافات التجاريّة المحضة والمتعلّقة بتعميم هذه التقنيات في المدارس. هل سيضمحلّ التعليم التقليدي لصالح الحاسوب والتعليم بواسطة الانترنت؟ (من السخريّة أن قام البعض بمقارنة بين نسب استعمال الانترنت للتدليل على التفاوت الجهوي في تونس). فالانترنت يسمح بالحصول على كميّات لا حصر لها من المعلومات لكن هل يساوي التربية والتعليم؟ منذ نعومة أظفاره وبالخصوص منذ التحاقه بالمؤسسة التعليميّة يهيّأ الفرد للدّخول لعالم المعلوماتيّة. فالكائنات الحيّة والظواهر الأنثروبولوجيّة والاجتماعيّة تقع مقاربتها من خلال منطق اختزالي تحدّده الآلات الاصطناعيّة بل لقد رأى البعض في المهمّة الموكّلة للتعليم أن تكوّن تلاميذ قادرين على فتح جهاز الكمبيوتر والاتصال الالكتروني. من ناحية أخرى هناك وهم التقييم القادر على التقدير المطلق والعلمي وهذا التقييم المزعوم لا يقدر على مجرّد مساءلة ذاته ومقاييسه التّي اعتمدها ومراجعتها وهو يندرج ضمن التصوّر الوهمي القائل بالتحكّم المطلق في كلّ المعطيات. هل سيقتصر تقييم فرض الفلسفة على إحصاء الجزء المحدود من هذه المادة والذّي حصل للتلميذ أو ربط ذلك بكميّة الاستشهادات والمراجع والقدرة النسبيّة على التحليل الفلسفي؟ ماذا يعني أن يحصل تلميذ على 20 من 20 في مادّة الفلسفة عوضا أن يكون التقييم مسندا لتقدير نسبيّ يفتح المجال لتحاور بين التلميذ والأستاذ؟ نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لمادّة الرّياضيّات وهو العلم الأكثر شكلانيّة وتجريدا وعقلانيّة  العديد من الدّراسات المختصّة مثل “الدوسيمولوجيا” Docimologie وهي طريقة لمراقبة وتقييم الحصول على المعارف تفنّد القدرة المطلقة على التقييم علما وأنّه قد وقع التخلّي عن دراسة هذا الميدان. أمّا عن المعدّل الثلاثي فحدّث ولا حرج. فمعدّل 10 من 20 (عشرة الحاكم كما تعرف في أوساط التلاميذ) أصبح معيارا للنجاح والانتقال من قسم إلى آخر. هل يمثّل ذلك حصول التلميذ على نصف المعارف أو على قدرة على التفكير ومواجهة مستوى تعليمي أرفع؟ من المعلوم أنّ هذا المعدّل يدمج معدّلات مواد مختلفة بدءا من الرّياضيّات وصولا للتاريخ والجغرافيا والتربية البدنيّة. على قاعدة هذا المعدّل يمكن تحديد نخب المستقبل والتلامذة المتفوّقين والممتازين. كلّما يعلو المعدّل فوق العشرة إلاّ وكان الالتحاق بهذه النخبة أقرب. ثمّ تأتي الجائزة لتؤكّد مشروعيّة وقدرة التقييم وتبرّر اعتراف المجتمع بقدرات هذا الشاب وإعداده للمجتمع وفرض استبطانه لهذا التقييم. كيف لنا أن نعدّ أجيالا متحرّرين وقادرين على الابتكار والخلق إذا كان المقابل جملة من الأعداد؟ لماذا نأسف لتراجع نشاط التلاميذ وعزيمتهم وفقدانهم للرغبة في الحصول على العلم إذا كنّا قد فرضنا عليهم معرفة تتلخّص في جملة من الكفاءات والمعارف المجزّأة التّي يمكن تقييمها. لم يقتصر وباء التحكّم اللاّمتناهي والقدرة اللاّمحدودة للتحكّم العقلاني على أشكال التربية بل لقد أصاب أيضا محتواها. مهمّة النّظام التعليمي تنحصر في إعداد التلاميذ لنشاط مهني محدّد. في هذا الإطار يقع التركيز على الاختصاصات التقنيّة وعلى تجزئة المعارف وتدعيم الاختصاصات. يحمل هذا التقسيم اللاّمتناهي للاختصاصات بذرة عدم اكتراث التلاميذ المتزايد بمعرفة غير قابلة للفهم و”غير مفيدة”. تماما كما فقد العامل المعنى والغاية من عمله مع تجزئة النشاطات داخل المصنع يجد التلميذ نفسه عاجزا أمام كمّ من المعلومات والمعارف المجزّأة وأمام عدم تضامنها وتكاملها. يمكن تشبيه هذه المعلومات بمربّعات متفرّقة يعجز الفنان عن تركيبها وتجميعها في شكل فسيفساء. كما أنّ هذا التجزِّؤ المفرط يتناقض أصلا مع تربية تهدف لتكوين أفراد قادرين في المستقبل على الاهتمام بقضايا ومسائل متشعّبة ومعقّدة قد تعترضهم في حياتهم الاجتماعيّة. كلّما راكمنا كميّة أكبر من المعارف إلاّ وكنّا مجبرين على التخصّص الشديد وهذه مفارقة التعليم المعاصر إذ أنّ ذلك يعني تراجع قدراتنا على مواجهة المسائل والقضايا الاجتماعيّة العامّة. يقول المفكّر George Orwell: “إنّ الحصول على كفاءة أو خبرة في مجال أو مجالات علميّة حتّى وإن صاحب ذلك موهبة عالية لن يسمح أبدا بتبنّي فكر إنساني ونقدي… لن يصبح تعميم التعليم العلمي في أوساط الجماهير مفيدا ومجديا إذا اختزل في مراكمة المعارف الخاصّة بالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا على حساب التاريخ والأدب. قد يكون من بين نتائج ذلك تحديد مجال فكر الإنسان وشعوره بالتعالي واحتقاره للمعارف التّي لم يحصل عليها. أمّا من ناحية مواقفه السياسيّة فلن تكون أكثر اتّزانا ووضوحا وذكاء من مواقف مزارع أمّي حافظ على بعض الذكريات التاريخيّة وعلى أحاسيس وأذواق سليمة”. لا أحد يقدر على الإجابة عن السؤال: لماذا نحن مطالبون بالحصول على هذه المعارف المحدّدة؟ لماذا نتعلّم وندرس ولماذا تعرف المؤسسة التعليميّة أزمة خانقة لم تقدر الإصلاحات المتتالية على تجاوزها؟ عادة ما يكون الردّ بأنّ المسألة تتلخّص في أزمة برامج أي محتوى المواد التّي يقع تدريسها والحال أنّ الأزمة تكمن في تحديد الأهداف الفعليّة من هذه البرامج. ما هي المعلومات التّي يجب تبليغها وحسب أيّ مقاييس؟ الجواب العادي والبسيط يكون في غالبيّة الأحيان: إنّنا نبلّغ جملة من “المعايير” والمؤسسات التّي نعتبرها تجسّد “الثقافة” في أحسن وجه. لكن الثقافة المعاصرة أصبحت مزيجا من المزايدات الحداثويّة ومن المتحفيّة. من زمان تحوّلت الحداثويّة إلى أكذوبة تجترّ نفسها وتستند إلى أحكام واهية لا تنطلي سوى على هؤلاء الأميّين الجدد. فالثقافة الحاصلة لم تعد تعتبر إرثا حيّا له وقعه على الحياة ولكنّها اختزلت في معرفة متحفيّة نزورها كما نزور متحفا أو كما يتطلّع سائح لزيارة موقع ما فتئت أجهزة الدّعاية تشير له. أمّا في مجال الفكر فلقد عوّضت الملاحظات والتعاليق والتأويلات وعمليّات التفكيك الفكر الخلاّق. هنا يتّخذ السؤال عمّا يجب تبليغه من خلال التربية والتعليم أهميّة قصوى. فالمعارف والمعلومات يجب أن تشكّل شغلا أساسيّا للمجتمع وذلك في شموليّتها. إذا كانت الأزمة هي أزمة محتوى ما يقع تدريسه فهي أيضا لا تنفصل عن أزمة العلوم والمعرفة التّي يشهدها المجتمع المعاصر وهي تتّخذ شكلين أساسيّين. فمن ناحية نشهد موت العلم في مفهومه الكلاسيكي المتعارف أي موت نوع من إنتاج وتبليغ معرفة وبروز ظاهرة الشكّ المزمن في حقيقة ما اكتسبناه من معارف قد تبدو غامضة ومبتورة ومؤهّلة في كلّ لحظة للتجاوز. في هذا الإطار برزت موضة النسبيّة المطلقة والاختلاف المطلق التّي طبعت العلوم وما يعرف بفلسفة ما بعد الحداثة مضاف لها ذاك اللّغو حول التّنوّع واحترام الاختلاف. كلّ ذلك أدّى إلى إخفاء ذاك الجدب والقحط الذّي ميّز الفكر المعاصر بما في ذلك العلوم الصحيحة: “كلّ شيء جائز –النظريّات العلميّة تتساوى- الأفكار تتساوى- يجب القبول بكلّ شيء لصنع عالم”. لكن كيف نساوي بين الشعوذة والكذب وبين التفكير الرصين والمعمّق؟ كيف نساوي بين الأفكار الشموليّة والدّكتاتوريّة وغيرها من الأفكار؟ هذه اللّخبطة التّي في ظاهرها متسامحة ومنفتحة تحول دون أن يكون المجتمع شفافا ومنفتحا على نفسه وهذا يؤول به إلى الأزمة والتقهقر. فالفلسفة ما بعد الحداثيّة والخطب الرّنانة حول قدرة العلوم على تخليصنا من كلّ أشكال التبعيّة والهيمنة والعجز والقبول بكلّ شيء مادامت تتساوى تعني رفض تبليغ المعلومات والمعارف بل حتّى رفض المعرفة ذاتها بدعوى أنها عنصر قمع واتهامها بكونها أداة تسلّط وقهر. باسم رفض النخبويّة روّج للجهل. البعض من أنصاف المثقّفين الذّين ذاع صيتهم في السنوات السّبعين وجهوا نقدهم لما أطلقوا عليه بالنخبويّة الثقافيّة بدعوى أنّ الثقافة الرّاقية تروّج لقيم السلطة الحاكمة وخلصوا إلى التنديد بما سمّوه بالمفهوم النخبوي الذّي يدعو كلّ مثقّف إلى الاطلاع على الآثار الأدبيّة والفنيّة وحتّى العلميّة المأثورة. إذن لا فائدة من قراءة أشعار الشابي وكتب المعرّي وطه حسين ونجيب محفوظ وكتب العلماء مثل أنشتاين وفرويد وبولانيي وقودال والفلاسفة والمؤرخين مادامت كلّ الكتابات تتساوى (هذا الاتجاه نتلمّسه أيضا في ميدان الفنون فباسم رفض الموسيقى البرجوازيّة روّج لموسيقى متآكلة ورديئة وفاقدة للرّوح الفنيّةوتدّعي الثورية والحال أنها أبعد من اعتبارها مجرّد موسيقى). هكذا ساهم هؤلاء الثورجيون في تعميم الرّداءة. بٱسم ثوريّة مزعومة نقضي على كلّ أداة لتبليغ ونقل المعارف وندّعي أنّ الأستاذ والمربّي ليس سوى أداة قمع وتسلّط. لقد قدّمت هذه الفلسفة ما بعد الحداثيّة خدمة جليلة لسلعنة المعارف والمعلومات. فمادامت المعارف تتساوى فما فائدة المدرّس والمعلّم والأستاذ. من ناحية أخرى تغيّر مفهوم ودور المعارف والمعلومات التّي نحصل عليها من المجتمع. لمن تتوجّه المعارف ولماذا كلّ ذلك يعرف لخبطة تامّة؟ في السّابق كان ينظر للمعارف والمعلومات على أنّها أداة تحرّر وتخلّص من الجهل بل كانت تعتبر الأساس للحداثة وللتخلّص من الهيمنة السّابقة (التقاليد، هيمنة رجال الدّين…) أمّا اليوم فلقد تحوّلت إلى ضرب من الإيمان الأعمى وأداة لإخفاء حقيقة مجتمع المعلومات المزعوم. العلم والتكنولوجيا أصبح ينظر لهما أنّهما محايدان. لكي تفرض رأيك وسلطانك تقمّص العلوم. هي دكتاتوريّة رطبة تحكم العقول والمخيّلات وتجعل الإنسان يتقبّل دون مجرّد الشكّ أو إبداء الرّأي. إنّها سلطة الخبراء بل إنّنا نسمع من أفواه السّياسيّين خصوصا منهم اليساريّين: “نريد سلطة تكنوقراط وأصحاب الكفاءات العلميّة”. لكأنّ التكنوقراط محايدون سياسيّا. ألم يحكم الخبراء والمختصّون طوال قرون ولم نحصد سوى الخراب البيئي والاجتماعي؟ تكمن المفارقة اليوم في أنّه ورغم هذا الخطاب الساذج فإنّ جزء هامّا ممّن تمكّنوا من ضمان دخل مرتفع لا يختصّون بكفاءة علميّة وتقنية ولم تعد الشهادات العلميّة ضامنا للارتقاء الاجتماعي.

عندما نتحدّث عن التربية وعن تبليغ المعارف لا بدّ أن نتوجّه إلى العناصر الفاعلة في العمليّة تبليغا وتقبّلا وإلى الأساليب والأدوات المعتمدة. فالجيل الذّي يبلّغ المعلومة قد تربّى على الكتاب علميّا كان أم أدبيّا. أمّا الجيل الحالي فهو يعتمد أكثر فأكثر على التكنولوجيا الرّقميّة وعلى الشاشة بحيث تراجع الكتاب ولم يعد الأطفال والتلاميذ يطالعون. ثمّ إنّ القطيعة أصبحت مضاعفة. ففي السّابق كان النّاس يتواصلون بصفة مباشرة أمّا اليوم فلقد حلّت الشاشة محلّ اللّقاء. فالشّاشة والانترنت والمكتبات الرّقميّة ومقابلات الفيديو تجسّد تسارع الوقت بحيث يمكن الحصول على المعلومة في ثواني وبمجرّد الضغط على الزرّ. هناك معلومات كثيفة متراكمة وهناك سرعة فائقة للحصول عليها وهناك هوس اللّحظة الحاضرة والمباشرة. التقنية تصبح أداة الوصل وقد تحمّس لها أصحاب مؤسّسات الإعلاميّة وجعلوا منها أساس التعليم في المستقبل بل لقد أعدّت قمّة عالميّة للابتكار في التعليم تجتمع كلّ سنة لسدّ ما يعرف بالفجوة الرّقميّة والحثّ على التعليم عن بعد وعبر الانترنت ورصدت قروض لتمويل مشاريع التعليم الرّقمي ودخلت على الخطّ مؤسّسات وطنيّة وعالميّة وتكوّنت مجموعات تحثّ على تعميم الحاسوب في المدارس كتلك التّي أقرّتها مجموعة 5 زائد 5 الخاصّة ببلدان المغرب العربي الكبير وبلدان أوروبا.

لقائل أن يقول إنّه التقدّم التكنولوجي الذّي لا بدّ من مسايرته والقبول به وإلاّ حكمنا على أنفسنا بالتخلّف والعزلة. من يقدر على رفض التكنولوجيا؟ انتهى عصر الكتاب والصحيفة؟ لكن المسألة تبدو أعمق وليست بالبساطة التّي تطرحها معظم وسائل الدّعاية والإعلام. فلقد أثبتت تجارب علميّة موثّقة ومدعّمة قام بها ثلّة من المهتمّين والمولعين بالانترنت في الجامعات الأمريكيّة وذلك منذ 1989 أنّ الإبحار في الانترنت وفي الشاشة الصغيرة ومهما كانت المعلومات التّي يراد الحصول عليها يتطلّب تشغيل مناطق عصبيّة من المخّ غير تلك التّي تستوجبها القراءة الرّصينة للورق والكتاب. فقراءة الكتاب الورقي أكثر تنشيطا للذاكرة والفهم من قراءة نصّ على الشاشة. كلّ هذه الدّراسات العلميّة تؤكّد بما لا يدع للشكّ أنّ الدّعوة للدّروس على الانترنت من خلال الحاسوب المحمول أو المقابلات الرّقميّة والرّسائل مهما يسّرت من معلومات وتعارف لا تساوي التّدريس المباشر والمطالعة وقراءة الوثائق والكتب. لكنّ كلّ ذلك لا يهمّ أصحاب الأنظمة الخبيرة والمؤسّسات المنتجة للآلات الإلكترونيّة التّي ما فتئت تتغيّر كلّ يوم ويستوجب ذلك استبدالها كلّ مرّة. ما يهمّها هو بالأساس تبليغ المعلومة أيّا كانت. هي لا تكترث بمدى تقبّلها وفهمها وهضمها. نحن إذن تجاه تحوّل الأداة إلى هدف في حدّ ذاتها إل درجة أنّ مقاييس التخلّف والتفاوت الجهوي أصبحت تستند على عوامل لعلّ أهمّها نسبة استعمال الحاسوب والانترنت. لماذا لا يمكن للحاسوب أن يعوّض العقل البشري؟ لأنه لا يملك قدرة على التخيل وبالتالي لا يمكن أن يتجاوز الحدود التي رسمتها له القواعد والقوانين التي تضبط نشاطه ولأنّ الحاسوب لا يمتلك مهجة وبالتالي فهو عاجز عن تغيير وجهة البحث وموضوعه بصفة مباشرة وفجائية متى برزت فكرة جديدة لم تكن في الحسبان ولم تخطر على البال منذ الوهلة الأولى بحيث يتعلّق بها الباحث ويتتيّم بها طيلة مدّة بحثه. لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز هذا العقم وهذا النقص مهما تعدّدت التقنيات وتطوّرت.

اليوم أن تعلم أو تتعلّم فلا يعني ذلك أن تفهم وتحلّل وتتريث لإمعان الفكر بل هو أن تعلم بما يحدث في اللّحظة المعنيّة أو قراءة ملخّص لآخر كتاب يعرف الشهرة. “فالنّات” يشجّع على تداخل المعارف ولكنّه لا يحثّ على بنائها النقدي. فسهولة خزن المعلومات والحصول عليها قد أدّت إلى نتيجة جوهريّة: لقد تحوّل دور المخّ البشري من خلال التقنية الرّقميّة. فالذّاكرة أصبحت رقميّة ولم تعد قضيّة تفاعل أعصاب ومفاصل عصبيّة. أيّ حريّة لمجتمع لا يحصل على المعلومة ولا يتواصل سوى من خلال الانترنت؟ فإذا كان الانترنت يقدّم كمّا هائلا من المعلومات يفوق ما يوفّره كتاب فإنّ هذا الأخير يقدّم معلومات أشدّ وثوقا ورسوخا. الوسائل الرّقميّة أدوات تقنيّة عصريّة مهمّتها حثّ المستعملين على استهلاك العالم والقبول به كما هو (بطبيعة الحال هناك استثناءات). مجتمع المعلومات والمجتمع الرّقمي والمجتمع ما بعد الصناعي ليست سوى صورة ملمّعة لواقع جديد ومجتمع يشتدّ تذرره وتفكّكه وفرد تتعمّق عزلته. من مفارقات عصر المعلومات والمعرفة الذي ركّز على دور الشباب وخصّص له سنة عالمية أنّه يقدّم لهذا الشباب كلّ ما هو سلبيّ وضارّ. فللشباب نرضعهم ونطعمهم غذاء ملوّثا بالمبيدات ومختلف أنواع السّموم الكيميائيّة غنيّا بالسكريّات والشّحوم واللّحوم والشّباب هو من يعيش وسط الشاشات والهواتف الجّوالة والحواسيب وألعاب الفيديو والتلفزيون وفي بعض الأحيان نخصّص لهم جهازا في بيوتهم فيشاهدونها بمعزل عن كلّ أفراد العائلة فيتحوّل المنزل إلى نزل يقصده الطفل والتلميذ للنوم والسّكن. “نحن لسنا ما نقرأ ولكن كيف نقرأ” مقولة Mariamme Wolf. لا تهمّ التقنيات بقدر ما تهمّنا المعارف التّي تعدّ للتفكير والخلق. فنحن نعجب لعلماء وأدباء وفنّانين وموسيقيّين أبدعوا آثارا لازالت حيّة وفي ظروف لم تعرف بعد التقدّم الحاصل اليوم على المستوى التكنولوجي. من المفارقات أيضا أن النخبة المثقّفة وخصوصا منهم رجال التعليم والجامعيّين واعون بهذه المسألة ولذا تراهم يحثّون أبناءهم على المطالعة وعدم التفريط في الكتاب كأداة ثقافيّة. بعضهم ما فتئ يدعو لإعادة الاعتبار للكتاب وللكتابة التّي تبعث على التساؤل والبحث.

-XII- العمل بين المفهوم والحقيقة لا يمكن أن نفهم العمل سوى كونه مؤسسة وهو عبارة عن شبكة رمزيّة تربط المجتمع بحيث يتداخل فيها عاملان: عامل وظيفي وعامل مخيالي. فإذا كانت الوظيفة من العمل جلية وبارزة فإنّ الجانب الآخر يغيب عن غالبيّة التصوّرات والمواقف حول العمل. فهذا الأخير يهدف إلى الإنتاج وخلق الخيرات لكنّه يمثّل أيضا تصوّرا مخياليّا خاصّا بكلّ مجتمع وما الاستلاب والتبعيّة والقبول بهيمنة تصوّر متعالي وضروري وحتمي للعمل سوى من صنع البشر ومن خلقهم والحال أنّ المجتمعات هي التّي تبني المؤسّسات وتخلق الرّموز وتحدّد الغايات. فعلى سبيل المثال في المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة اعتبر العمل الوسيط الرّئيسي والمحوري للعلاقات بين البشر وهذا الإقرار لم يأت بصفة آليّة وطبيعيّة بل هو يفوق الدّور الوظيفي البحت ويمثّل رؤية مميّزة وخاصّة بهذه المجتمعات.

فحتّى الآلات والتقنيات وطرق خلقها وابتكارها وطرق تنظيم العمل المرتبط بها كلّ ذلك يحتوي في طياته تصوّرا حتّى وإن كان للآلات والتقنيات دور وظيفي لا نقاش فيه.

تتوهّم النظريّة الماركسيّة أنّه سيقع التغلّب على هذا الجانب المخيالي لصالح الجانب العقلاني الصرف والوظيفي ولذلك تعمد جاهدة إلى وضع مفهوم “علمي” للعمل وللبضاعة وإذا بالعلاقة بين البشر تتحوّل إلى علاقة بين الأشياء تحكمها قوانين موضوعيّة: هناك مفهوم محدّد للأشياء وللذوات وهناك دور للأوّل ودور للثاني وهناك مفهوم للبضاعة وللعمل وللعلاقات التّي نستمدّها من داخلها وهي كامنة فيها فتأتي التعريفات تلو التعريفات. في الحقيقة لا العمل ولا البضاعة ولا الاقتصاد مسائل ملموسة ومحدّدة ويمكن تعريفها بدقّة لأنّها تحوي في كنهها إلى جانب دورها الوظيفي الصّرف تصوّرا مخياليّا يعلو عليها ويُخضعها ولهذا فإنّ التطرّق إلى القضايا الاجتماعيّة من نوع البطالة والتهميش لا يمكن أن يقتصر على مجرّد البحث عن آليّات لضمان الشّغل وتوزيعه بل عليه أن يفضي إلى خلق وتصوّر جديدين للعمل وللتكنولوجيا وللاقتصاد. تعتبر الماركسيّة أنّ إعادة إنتاج المجتمع تقع من خلال العمل وهي تتطرّق إلى العمل المنظم اجتماعيّا بصفته النّمط الخاصّ الذّي يعيد من خلاله البشر إعادة إنتاج وجودهم وضمان تواصل المجتمعات وهذا بخلاف الحيوانات بل إنّ الاقتصاد ليس سوى شكلا لإعادة إنتاج الحياة (أنجلس ذهب إلى أنّ العمل كان الوسيلة التّي أدّت إلى تحوّل القرد إلى إنسان!! وقد فندت الدراسات العلمية المعاصرة ذلك). إذن حسب هذه النظرية هناك حقيقة كامنة في العمل وتقوم الرّأسماليّة باستلاب قوّة العمل وكلّ تغيير جذري لا بدّ له أن يهدف إلى استرجاع ذاك المفهوم الكامن والحقيقي للعمل. لقد ارتبط هذا المفهوم الخالص والأصلي للعمل بمفهوم آخر حيث تعتبر الماركسيّة أنّ التكنولوجيا محايدة وكذلك هي أساليب تنظيم العمل وهذا ما يفسّر افتتان لينين بالتنظيم الرأسمالي للعمل داخل المؤسسة والمعروف بالتايلوريّة وتبنيه لها بصفتها أرقى أشكال التنظيم وباعتبارها محايدة وعقلانيّة خالصة. نقرأ في الباب الثاني من الدستور السوفييتي ما يلي:” تعتبر الجمهورية الإشتراكية الفدرالية السوفييتية لروسيا العمل إجباريا لكل مواطني الجمهورية وذلك عملا بالشعار من لا يعمل لا يأكل”.

لسنا هنا بصدد التوقف عند هذه الجوانب من الفكر الماركسي للعمل بقدر ما أردنا التأكيد على حقيقة ألا وهي أنّ المسألة تتجاوز مجرّد الحصول على الشغل، أي شغل، وأيّا كانت الأهداف والمرامي ولهذا لا مندوحة من التطرّق إلى كنهه. فعلى عكس ما يتصوّره اليساريّون لم يعد الشغل مكوّنا أساسيّا للهويّة الفرديّة والجماعيّة. ففي عصر تعمّق فيه النقد لمفهوم التنمية خصوصا في البلدان المصنّعة والوعي بالقضايا البيئيّة وبينما تراجع عدد العمّال وتراجع تأثيرهم وحجمهم في المجتمع خصوصا في البلدان المصنّعة وتشتدّ حملات الرّفض لأشكال العمل الجديدة وفي حين يبرز الاهتمام بالحريّة السياسيّة وتنشأ أشكال من الهويّة الاجتماعيّة التّي لا تستند أساسا على الانتماء الطبقي تبرز نقاط ضعف الماركسيّة في مقاربتها للقضايا المعاصرة بما في ذلك العمل.

من ناحية أخرى لقد مكّنت الأتمتة والرّوبتة وتطوّر تقنيات المعلوماتيّة من الرّفع من الإنتاج مع الحدّ من كميّة العمل وتراجع للحاجة لليد العاملة المطالبة برفع الإنتاجيّة للحفاظ على نسبة الرّبح لضمان المزاحمة. إذن عدد محدود من العمّال ومطالبة متزايدة للرّفع من الإنتاجيّة وضغوط داخل المؤسسات لكن ذلك لم يحل دون تراجع تراكم رأس المال المنتج. ففي الولايات المتحدة الأمريكيّة تستمدّ الخمسمائة مؤسّسة الكبرى أرباحها أساسا من العمليّات في السّوق الماليّة والمضاربات وليس من عمليّة الإنتاج ذاتها. هناك فنّ صناعة المال خارج دورة الإنتاج. من ناحية أخرى وكنتيجة لتطور القدرات التقنية والأتمتة فإن الحد من ساعات العمل أصبح واردا واقتصر دور العامل على مراقبة الآلات لمدّة زمنيّة محدّدة ليتفرّغ بعد ذلك للهو خارج مواقع العمل. لكن تحديد ساعات العمل لا يعني بالضرورة أن الوقت الحرّ يستغل في الابتكار.

من ناحية أخرى هذا العمل في الإدارات والمؤسسات الصناعية وحتى الزراعية يحول دون النشاطات خارجها بل وأصبح يتسبب في استفحال أمراض عديدة كالأمراض النفسية والسمنة كما أنه يفصل إلى حد كبير المواطن عن محيطه الطبيعي. أما في القطاع الزراعي فقد تراجعت الزراعة العائلية ومعها العلاقات داخل المجموعات البشرية لصالح زراعة تجاريّة، مصنّعة وكيميائيّة. لا يساهم المواطنون في اختيار مسكنهم وأشكال الهندسة والمواد المستعملة وغذاءهم ولباسهم وحتى الفنون والثقافة وقع تصنيعها والقضاء على الجانب الإنساني والفني فيها. فبقدر ما مكّنت التقنيات الجديدة من الحدّ من مدّة العمل والجهد وفي زيادة الإنتاج بقدر ما فصلت العمل عن الحياة الاجتماعية. فالتصور المهيمن الذّي يدعو إلى التحكّم اللاّمتناهي في الكون والتّوسّع وتحوّل الإنسان إلى إله على وجه البسيطة قد رافقته تبعيّة مقيتة للتقنيات وانفصال عن الطبيعة حيث تراجعت التجربة الحسيّة المباشرة وانفصل الإنسان عن منتوجة وعن الهدف من إنتاجه. هناك مفارقات عديدة تميّز التطوّر الحاصل في المجتمعات المعاصرة وتجعلها تواجه حدودها الفعليّة دون أن يعني لك أن انهيارها وشيك. فالمجتمع يدعو إلى الزيادة في الإنتاج ويلقّب بمجتمع النموّ في حين يعجز اليوم عن تحقيق هذا النموّ خصوصا منذ السبعينيات والمجتمع يقدّس العمل ويجعل منه الرابط الذي يوحّد البشرية ولكنه يعجز عن توفير مواطن الشغل. هو مضطرّ ولو نسبيّا إلى تحقيق حدّ أدنى من القدرة الشرائيّة لأعداد متزايدة من المهمّشين والمعطّلين دون أن يرتبط ذلك بأي جهد أو عمل. فنحن نعيش الفترة ما بعد “الفوردية” بما يعني ذلك من تجزئة المؤسسات إلى وحدات صغيرة تنتشر في كل أرجاء العالم وتنشط في شكل شبكات مرتبطة الواحدة بالأخرى. لم يعد الهدف الأساسي تثمين رأس المال ولكن فرض صفة البضاعة على المنتجات بحيث يضطرّ المستهلك إلى التّوجّه للسوق للحصول عليها وتنعدم بذلك كلّ إمكانيّة لإنتاج من أجل الاستهلاك الفردي والجماعي. فعلى سبيل المثال يحرم الفلاح من بذوره ويفرض عليه شراء البذور المهجّنة من الشركات العالميّة وتسنّ قوانين دوليّة لذلك مثل الدستور الغذائي Codex Alimentarus وترفض المؤسسات المختصّة تسجيل البذور الأصليّة مثل حالة مؤسسة Kokopelli. يمكن أن نقيس على ذلك في جميع المجالات الأخرى. فالهيمنة تفرض من خلال تعميم خاصيّة البضاعة على كل المنتجات. باستهلاكنا وخضوعنا لمجتمع الاستهلاك نكون قد ساهمنا في تأبيد علاقات الهيمنة. لم يعد المستهلك هو الذّي يشتري البضاعة بل أنّ البضاعة هي التّي تشتري مستهلكيها وتفرض عليهم عقلية وتصورا لما يجب أن يكون عليه إنسان العصر بصفته أساسا إنسانا مستهلكا.

من المفارقات الأخرى ذلك التأكيد على دور العمل في إضفاء معنى للحياة في الوقت الذي تتراجع فيه الحاجة للعمل. فهذا الأخير يهدف إلى الاقتصاد في العمل ثمّ إن زيادة الإنتاج والإنتاجيّة تدفع إلى مراكمة مزيد من البضاعة التي لا تمثل بالضرورة حاجة فعلية. يكمن الحل في خلق حاجة وهمية من خلال الدعاية وهذا يتناقض أصلا مع الحدود الطبيعية للكون. هذا مجتمع العمل يعلن لمواطنيه في كل أرجاء لعالم: “ليس بإمكاننا توفير الشغل للجميع. لسنا بحاجة لقوّة عملكم فهذه الآلات تعوّضكم وهذا العمل لا يمثّل سوى جزء محدودا من قيمة البضاعة وكلفتها”. كل القطاعات الصناعية تقوم بالحد من عدد العمّال وتطرد يوميا آلاف العمّال وحتى المؤسسات التي وقع نقلها من البلدان المصنّعة إلى بلدان الجنوب بحثا عن اليد العامل الرخيصة تعرف مصيرا مشابها. فهذه المؤسسات المنتصبة في بلدان آسيا تتخلى عن أعداد هائلة من اليد العاملة ولم يقتصر ذلك على القطاعات الصناعية بل وتعداه إلى قطاع الخدمات. هكذا تؤدي الإنتاجية العالية إلى لفظ وتهميش أعداد متزايدة من المواطنين الذين يزداد حالهم بؤسا. فبعد أن وقع إفراغ الأرياف وتصنيع الزراعة وهدر التربة ودفع أفواج من المزارعين إلى المدن بحثا عن الشغل هاهي المصانع تلفظ عمّالها وهاهي الصين القوة الصناعية الكبرى تستفحل فيها البطالة لتبلغ 22 بالمائة من السكان. يذكرّنا أصحاب القرار والمال أن العمل مقدّسا وأنّ الكسب يساوي التفاني في العمل ولكنهم في الوقت ذاته يجنون من المضاربات وصناعة المال ما يفوق بكثير ما يجنونه من الاقتصاد الحقيقي والإنتاج. يوظّف المال في المال وهكذا دواليك. لكن هذه السياسة قد أدّت إلى الأزمات المالية التي عرفتها بالخصوص العقود الأخيرة.

رغم كل الدعوات التي نسمعها من هنا وهناك حول ضرورة العمل والكد وزيادة الإنتاج والإنتاجية فالكل يعلم أن المجتمعات المعاصرة قد افتقدت للمعاني الموحّدة والجامعة وتذرّرت وأنه ابتداء من الستينات من القرن الماضي بدأت تعرف تفككا طال كل المجالات بما في ذلك العمل. لقد فقد العمل معناه. نعمل لننتج ونضمن الحاجيات. لكن ما هي الحاجيات ومن يحدّدها وأين تقف الرغبة في الحصول عليها؟ فهذا الاقتصاد قد استقل بذاته وهذه التكنولوجيا قد استقلت بذاتها أيضا ولم تعد الأهداف تسطّر وتحدّد بل لقد انفصل الاقتصادي عن الاجتماعي وأصبحت الوسيلة هي الغاية.

كل شيء ممكن إنجازه ننجزه. لا يهمّ الهدف. لا يهم تأثيره على الإنسان والكون. المهم أن يكون الإنتاج قابلا للتسويق للتحول إلى بضاعة. انتهى عصر قانون العرض والطلب. نحن في عصر قانون العرض لأن الطلب تفرضه وسائل الدّعاية التي تستمدّ قوتها من شهرة المؤسسة وخلق الرغبة لدى المستهلك وإحاطة البضاعة بهالة من الندرة والتميز والفرادة وإضفاء قيمة رمزية عالية لها بحيث يصبح الحصول عليها عنوان نجاح وارتقاء اجتماعي ومصدر فخر للمستهلكين.

من ناحية أخرى تراجع قطاع الإنتاج الصناعي نسبيا لندخل فترة أطلق عليها البعض بتثليث الاقتصاد أي بروز وتوسع قطاع الخدمات. ما الحل إذن؟ هل ندعو إلى الكسل؟ هل ندعو إلى استعادة الاقتصاد “الفعلي” وإلى هيمنة الدّولة المطلقة على المجالات الاقتصادية؟ لكن المسألة أبعد من أن تلخّص في أشكال تنظيم الاقتصاد والإنتاج بل في تحديد مفهوم مشترك للحاجيات ليتخلص المواطن من هيمنة البضاعة. يدعو اليسارييون إلى “تنمية المناطق المهمشة والاستثمار في المشاريع الصناعية لخلق مواطن الشغل”. لا يهم أن تكون المصانع كيميائية وملوثة للمحيط أو منتجة لكابلات السيارات، المهم في الاستثمار. التشغيل استحقاق لا بد من القضاء على المديونية وتشجيع الإستثمار الوطني. يجيب الليبراليون خصومهم: “من منكم يقدر على القضاء على البطالة… فإذا رفضنا المديونية والاستثمارات الخارجية فكيف لنا أن نخلق مواطن الشغل؟” يبدو الخلاف سطحيا ويبدو يساريونا قد اختاروا الوقوف على يسار الليبراليين وكيّفوا مواقفهم بمواقف الأوّلين وهم لا يعلمون أنهم لا يختلفون عنهم جوهريا. فحتى وإن قبل الجميع بالاستثمار والتنمية كوسيلة للخروج من عنق الأزمة والقضاء على البطالة هل تقدر هذه الاستثمارات على ذلك وما هي النتائج المرتجاة؟ الكل يقرّ أنه لا وجود لحل. نريد توفير الشغل، نقدّس العمل، ننبذ الكسل ولكن المجتمع عاجز عن توفير الشغل. إذن ما العمل؟ المسألة إذن تتجاوز فكر اليمين واليسار.

نسمع من عقود تصريحات ودعوات إلى ضرورة الدخول لعصر المعلومات والمعرفة بصفته الحل الجذري لأزمات المجتمعات. علينا أن نلحق بركب الحضارة الجديدة ونساهم في بنائها إذا أردنا أن نواجه هذا الركود وهذه الأزمات التي تعصف بمجتمعاتنا. لا مجال للترقب والمطالبة بل لا بد من المبادرة. كلام جميل ولا يمكن أن يختلف حوله إثنان. لكن إذا أردنا فعلا أن تكون مجتمعاتنا ومجتمعات البشرية جمعاء مجتمعات معرفة فهذا يعني أن تصبح مجتمعات خلق وابتكار وتصوّر يشارك فيه كلّ الناس بحيث يحددون الأولويات والقضايا الملحّة والتحديات المطروحة محليا وعالميا. هل أن الظروف العالمية الحالية تهيئ لولوج مثل هذا المجتمع؟ ثم كيف لاستثمار عشوائي وغير مدروس وغير مرتبط بالواقع أن يساهم في كل ذلك؟ هذا إذا اتفقنا أن هناك استثمار. كيف نوفر الظروف لمجتمع المعرفة المنشود؟ لا يمكن لمن يمضي وقته في البحث عن شغل وعن توفير لقمة العيش أن يبتكر ويخلق. لن يتأتى ذلك سوى بتوفير دخل متقارب يكفل العيش الكريم للمواطنين ويسمح لهم أن ينفتحوا على بعضهم وعلى محيطهم ويعمقوا تكوينهم ومعارفهم بارتباط به وفي علاقة بالآخرين. يعتقد المفكر André Gorz أن ما يعرف بالتنمية البشرية والرأسمال البشري لا يمكن فهمه سوى من خارج التصوّر المستند للبضاعة ولذلك فإنّ الحد من ساعات العمل وتقاسمه يعني بالضرورة توفير وقت حر هو عبارة عن “استثمار”. بطبيعة الحال لا يجب أن تحتكر وسائل الدعاية السخيفة والبرامج التلفزية التافهة هذا الوقت الحر بل لا بد من استثماره في الخلق أيا كان علميا أو تقنيا أو فنيا… يعني ذلك أنه لا مجال لتطوير هذا الرأسمال البشري سوى بدعم الاستقلال الذاتي الفردي والجماعي وذلك ضمن رؤية شاملة ومسؤولة يتبناها كل المجتمع ولا تقتصر على مؤسسة أو قطاع محدد وهذا يعني التخلص من محورية الاقتصاد ومن عقلية الاستهلاك والتقبل والمحاكاة والتقليد. فالشعوب بحاجة لتحول نوعي يطال كل مجال الفكر والعلوم والثقافة بصفة عامة. كما أن البحوث التي يقوم بها المواطنون أفرادا وجماعات خارج أوقات العمل ومن أجل الصالح العام عليها أن تلقى الدعم والمساندة من طرف المجتمع قاطبة مثلها مثل التعليم. فالرأسمال البشري ينتج ذاته بذاته باستقلال تام عن عقلية المراكمة والربح والرفع من الإنتاج والإنتاجية وفي تفاعل مع المحيط البشري والطبيعي مع اعتماد مبدإ التحديد الذاتي واحترام التوازنات الطبيعية. فقيمة هذا العمل الخلاق لا تقاس بمال أو بشكل من أشكال البضاعة. القيمة الفعلية ستكون ما يقرره الفرد والمجموعة خارج الإطار التقليدي للاقتصاد وعقلية الربح. لا يعني ذلك أننا ندعو إلى إلغاء السوق (فالسوق كانت موجودة قبل بروز المجتمعات الرأسمالية) أو إلغاء المعاملات بين منتجين ومستهلكين أو إلغاء التعامل بمقابل مالي ولكننا ندعو إلى تعاون المستهلكين والمنتجين وتحديد الحاجيات جماعيا محليا كان ذلك أم وطنيا وحتى عالميا: أية زراعة نروم، أي غذاء، أي بحث علمي، أية أولويات، أية تحديات، أية فنون، أية ثقافة ولا بد إذن من فتح ورشات بحث ودراسة وإرساء أطر ومؤسسات خاصة بكل هذه المجالات. لا ندعو إلى تحديد نهائي أو إلى إقرار سياسة موحدة تفرضها بيروقراطيات سياسية أو خبراء. فماذا فعل هؤلاء إلى حدّ الآن سوى أنهم خرّبوا المحيط وتسببوا في كوارث بيئيّة واجتماعيّة. كم هي الابتكارات التكنولوجية سواء في ميادين الطاقة أو الصحة أو الزراعة أو العمران أو المواصلات والتي ظلّت حبرا على ورق لأنّ المؤسسات الكبرى ترفض اعتمادها ولأنّها تتناقض مع عقليّة الرّبح والاستهلاك؟ كم هي القدرات الكامنة لدى الأفراد والمجموعات للتعاطي مع الواقع والتحديات بطرق فذّة وخلاقة لكنّها تظلّ مكبوتة لأنّ البحث عن شغل وعن توفير مورد الرزق وتلخيص الحياة في العمل والاستهلاك قد استوفى كلّ مجالات الحياة؟ فما التشغيل سوى الأخ التوأم للبطالة وما البطالة سوى الوجه الآخر للتشغيل والمطروح هو الخروج من هذه الثنائيّة إلى مفهوم آخر مستجدّ للنشاط والعمل وللحياة التّي لا يمكن أن نقصرها على الجانب الاقتصادي والاستهلاكي البحث. وحدها القدرات البشريّة على الخلق والابتكار قادرة على توجيه الاقتصاد والإنتاج وتسطير معالمه وأهدافه وحدوده وتصوّر أشكال للتوزيع والتبادل ولن يتأتى ذلك إلاّ متى انفصل هذا النشاط عن المفهوم الأدواتي والنفعي المباشر. خصوصيّة هذه القدرات أنها لا تحفظ وتدرّس ولا يقع تعليمها وإن كان للتعليم والتدريب والتكوين دور جوهري في تنمية القدرات الذهنيّة وتوفير المعارف ولكنّها عمل متواصل لا يرتبط بمجال سواء كان المدرسة أو موقع العمل. ما نشاهده اليوم أنّ بعض المعارف التّي تبرز في مجتمعاتنا تسقط فريسة لنهم بعض الشركات الكبرى ولكنّ طبيعتها اللاّماديّة تجعل من إمكانيّة تسرّبها إلى العموم واردة وهذا جليّ في مجال الأنظمة الخبيرة الحرّة Logiciels libres. ففي حين يدعو أصحاب القرار والسياسيّون لمجتمع المعرفة والمعلومات واقتصاد المعرفة نلحظ تسارعا محموما لدى المؤسسات لاحتكار هذه المعلومة وخصخصتها. نحن شاهدون على سقوط ونهاية مجتمع العمل الذّي نتلمّس بداياته في أزمة التشغيل التّي تعصف بالعالم قاطبة وهذا لا يعني أنّنا ندعو إلى التخلّص عن كلّ نشاط وإلى اللّهو البليد والاستهلاك والرّضوخ والتقبّل بل إلى تصوّر مجتمع جديد يوفّر لكلّ مواطنيه القدرة على الحصول على كلّ المصادر الطبيعيّة (دون أن يؤدّي ذلك لتخريب المحيط) والمعارف العمليّة والثقافيّة والفنيّة لتنظيم الحياة على قاعدة المسؤوليّة تجاه بعضنا البعض وتجاه الكون. فالمختصّون والخبراء في كلّ العالم يقرّون ويعترفون بأنّه إذا تواصلت وتيرة التنمية والتخريب على ما هي عليه الآن لمدّة عقد آخر فستعيش البشريّة كارثة لا يمكن التكهّن بمدى خطورتها. في تقديرنا هناك قطاعات هامّة من الإنتاج لا تمثّل حاجة فعليّة للبشريّة مثل البضاعة التافهة وسريعة التآكل والمصانع الحربيّة وغيرها من القطاعات المضرّة بالبشر والكون. ليس المطلوب توفير الشغل لكلّ البشر مهما كانت الاعتبارات والنتائج ولكن المهمّ أنّ نطوّر نشاطا خلاقا ومسؤولا ويحفظ التضامن بين النّاس ويوزّع الخيرات ويجنبنا إهدار المصادر ويحيي التربة ويضفي على الحياة رونقا ومعنى نخلقه كلّ يوم ونتصوّره جميعا دون التقيّد بالمرجعيّات والأحكام المسبّقة والمنغلقة. ففي هذا المجتمع المتضامن لن تمثّل الآلات والأموال مصدرا للخيرات بل إنّها تستمدّ من تلك المهجة وذلك التّوق للتصوّر الفردي والجماعي والخلق. ليست هذه أخلاقيّات متعالية، فوقية نسقطها ولكنّنا نستمدّها من تحليل للواقع الملموس وهي لا تعدو سوى أن تكون صدى لما يعيشه العالم قاطبة من تحرّكات شعبيّة طالت كلّ بقاع العالم. كما أنّنا لا ندعو إلى سلطة دكتاتوريّة باسم البيئة والحفاظ على الكون لأنّها لن تقدر على ذلك مهما ادّعت. فالنوايا وحدها لا تخلق المعجزات ولا يمكن لأيّ كان أن ينصّب نفسه داعية خير وسلام ومحبّة بديلا عن الشعب. من مفارقات هذا العصر أنّه راكم الإنتاج ورفّع في الإنتاجيّة بفضل التقنيات وتراجعت بذلك الحاجة للعمل ولكنّه لازال يعتبر الشغل محور الحياة ومصدر الهويّة والأداة الأساسيّة للتواصل الاجتماعي والحال أنّ المؤسّسات تقوم يوميّا بالحدّ من عدد العمّال لضمان الرّبح الأقصى. لقائل أن يقول مادام العمل قد فقد قيمته ومعناه ومادامت البشريّة عاجزة عن تجاوز هذه المفارقات وتخطّي أزماتها أين يكمن الحلّ؟ البعض ينادي بسلطة عالميّة بيئيّة تفرض سلوكا صارما وبعضهم يدعو إلى التوقّف عن الإنجاب ولكن مجمل هذه الدّعوات تنبئ بدكتاتوريّة وإن تلحّفت بالنوايا الخيّرة. أمّا اليسار التقليدي فهو يتصوّر الحلّ في هيمنة الدّولة على كلّ مجالات الحياة بما فيها المجالات الخاصّة والفرديّة واستعادة القطاعات المخصخصة. لقد تهكّم بعضهم من هذا الموقف السّطحي والسّاذج واعتبره لا يعدو أن يكون زحزحة الكراسي داخل نفس القاعة. فالمجتمع الذّي نرنو له والذّي يستمدّ صداه من تلك الدّعوة إلى الدّيمقراطيّة الحقيقيّة ليس بمجتمع الوفرة التّي تعد به الماركسيّة ولكنّه مجتمع التحديد الذّاتي الفردي والجماعي. “من كلّ حسب طاقته ولكلّ حسب حاجاته” هذا هو شعار المجتمع الشيوعي المنشود. لكن من يقدّر الحاجيات؟ وكيف نحدّد المجتمع وفق معيار اقتصادي بحت؟ وهل الوفرة تعني السعادة والتوازن النفسي بالضرورة؟ ثم هل من الممكن تعميم هذه الوفرة؟ لا ندعو إلى مجتمع الاستهلاك واللّهو والتقبّل والكسل والمحاكاة والتقليد ولكن لمجتمع يجعل من الوقت الحرّ مصدرا للخلق والإبداع الفردي والجماعي. فكما جعلت المجتمعات الرّأسماليّة من العمل والاقتصاد محوران للحياة (ثمّ هاهي تعجز عن تحقيق ما دعت له) فإنّ الخروج من هذا المجتمع لا يتأتّى كما يتصوّر مختلف اليساريّين بتطوير قوى الإنتاج ومراكمة الخيرات حدّ التخمة وتحقيق مجتمع الوفرة المزعوم بل يفترض الحدّ من النشاطات المخلّة بالبيئة والمضرّة بالحياة على وجه البسيطة وتصوّر مجتمع متضامن بحيث ينصهر الاقتصاد في المجتمع. فعندما تضع الماركسيّة التعارض بين الضرورة والحريّة أساسا لتصوّرها للعمل وتربط تحقيق الحريّة والتخلّص من الضرورة أي بتوفير الحاجيات فيعني ذلك أنّها لم تتخلّص من التصوّر الرّأسمالي لمحوريّة الاقتصاد والعمل ومن الحلول التقنية البحتة وبذلك لم تفعل سوى أنّها وقفت على يسار اللّيبراليّة. فإذا كانت الضرورة ترتبط بتوفير الحاجيات فالسؤال يظلّ: من يحدّد الحاجيات؟ هل سلطة دكتاتوريّة مثل التّي عرفتها المجتمعات البيروقراطيّة في روسيا وأوروبا الشرقيّة وآسيا؟ هكذا تصبح حريّة الإنسان واختياراته رهينة أشياء خارجة عنه ومستقلّة عن إرادته. فإذا كان الإنسان يتصوّر الأشياء في ذهنه قبل أن ينتجها خلافا للحيوان كما يقول ماركس نفسه فكيف يتحوّل الإنسان إلى عبء للأشياء التّي ينتجها هو بذاته؟ المجتمع المتخلّص من محوريّة الاقتصاد والعمل هو مجتمع لا يستند فقط إلى الرّصيد والإرث التكنولوجي المتراكم ولكنّه أيضا يراجعه ويبتكر الجديد بما يتلاءم مع الحفاظ على الكون والمحيط ويضمن تواصل البشر. علاقة التعليم والتشغيل لا تنفصم عن هذه الرؤية الشاملة. فالتعليم يجب أن يتجاوز مجرّد الحصول على المعارف في المدارس والمعاهد والجامعات والشغل عليه أن يقطع مع التصور الموروث إلى النشاط الفاعل والخلاّق وهذا لا يتأتى إلاّ بتوفير أقصى مجالات الحريّة بحيث يقع الفصل بين المستويات المختلفة الخاصّة والفرديّة، العموميّة-الخاصّة وأخيرا المجال العمومي فلا تحتكر أقلّية المجال العمومي ولا تحتكر الدّولة المجالات الفرديّة والمجالات الفرديّة-العموميّة (وهي مجالات تتوسّط الاثنين وتتمثّل في كلّ أشكال التجمّع الحرّ والإرادي لغاية محدّدة مثل الجمعيّات والمنظّمات الأهليّة والنوادي والمؤسسات التّي تنشئها المجموعات بإرادة ودون هيمنة…). فإلى جانب المدرسة يجب التشجيع على بروز كلّ أشكال نقل المعارف والمعلومات وإلى جانب الإنتاج الضروري لسدّ الحاجيات المتفق عليها يجب التشجيع على نشأة كلّ أنواع النّشاط الخلاّق علميّا كان أم ثقافيّا أم فنيّا. كلّ ذلك يتطلّب وعيا جماعيّا وإرادة واستعدادا لمجابهة القضايا والتحدّيات بروح جديدة.

-XIII- من أجل سياسة تربوية بصفتها أداة للتحرّر الذاتي: حتى لا يظل التشغيل الشغل الشاغل للشباب

منذ القدم كان الأولياء يرسلون أبناءهم للمدارس كي “يصبحوا بشرا بتمام معنى الكلمة” ويصقلوا مواهبهم “أريدك أن تصبح رجلا ينفع نفسه وبلاده”… كم هي الأقوال والأمثال التّي تحضّ على طلب العلم وذلك مهما تعدّدت الحضارات وفي كلّ العصور. كلّ مجتمع يهيّئ الفرد الخاص به والنوع الأنثروبولوجي الملائم من خلال مؤسساته ودلالاته ومعاييره. لكنّنا اليوم أمام تحوّل جذري لهذا النوع الأنثروبولوجي وأمام أزمة لا تطال فقط شروط بناء هذا الفرد ولكنّ المعنى من كلّ ذلك. فالمجتمع قد فقد المعنى ولم تبرز معاني جديدة من صلبه. إنّه صعود وبروز اللاّمعنى. أمام هذا الفراغ ثمة من يعمد لاستحضار الماضي سواء ماضينا أو تجارب شعوب أخرى فشلت وانهارت وهناك من يتشبّث بمعايير الحداثة وهو يتجاهل أنها تعيش أزمة في عقر دارها بعد أن تخلّت حتى عن المبادئ الدنيا التي انطلقت منها لتعوّضها إيديولوجيا الاستهلاك والكلّ الاقتصادي. لكن كلاهما لا يقدر سوى على الانصهار في ما هو مهيمن وطاغي. فلا الماضي يشكّل مخرجا ولا الحاضر يحمل في طياته عناصر التجاوز. فنحن إزاء أزمة خلق وتصوّر. إذن كيف للنظام التربوي أن يواصل مهمّته في ظلّ الظروف الجديدة؟ ثمّ ما الذّي يجعل المجتمع والمؤسسات بما فيها مؤسسات التعليم متماسكة وصامدة رغم كلّ هذه الأزمات؟ قد يردّ علينا البعض: “أنتم تغالون وتبالغون. فهذا المجتمع لازال متماسكا وقادرا على تجاوز أزماته رغم كلّ هذه الادّعاءات”. فرغم هذا التفكّك وهذه العزلة المقيتة التّي نلاحظها في الحيّ ووسائل المواصلات وموقع العمل ورغم أنّ حشودا من البشر تلتقي بعضها يوميّا دون أن توجّه لبعضها مجرّد التحيّة فهذه المؤسسات صامدة وهذه المؤسسات التعليميّة تؤدّي دورها وهذه مؤسسات القضاء والإدارات تنجز مهامها… في الحقيقة ورغم هذه الصورة القاتمة التّي أردنا إبرازها والتي لم تعد خافية على أحد وتشمل النّظام التعليمي والتربوي لازال هذا النّظام صامدا. يعود ذلك إلى أنّه لازال المواطن العادي يتمسّك بهذا النظام وهذا الشكل من التربية ومن التواصل الاجتماعي. إنّه الحسّ المشترك الذّي يتوجّه بالنقد إلى هذه المؤسسة وإلى المظاهر السلبيّة دون أن يقبل بانهيارها. فهو يرى فيها مجالا للاندماج الاجتماعي والتكوين ولازال يضع الثّقة فيها رغم ما يعتريها من عيوب. لازالت هناك صورا يتماهى معها الفرد (والمجموعات) تشدّه وترفض استسلامه لليأس. فرغم هذه الأزمة التّي تطال كلّ المؤسسات لازال هناك القاضي العادل والمدرّس صاحب الضمير المهني والعامل المتفاني في عمله. “لازال الخير في الدّنيا” حتّى وإن عمّ الشرّ. لكن هذه الأمثلة للتصرّف الحكيم والواعي والمتفاني لم تكن يوما وليدة النّظام التربوي الحالي ولا هي وليدة العقليّة النرجسيّة والأنانيّة التّي فرضها مجتمع الاستهلاك. إنّها من بقايا العقود السّابقة لهذا المجتمع الذّي يحثّ على الفردانيّة والعزلة واللّهث وراء الرّبح الأقصى. لكن إذا ما وجد المعلّم والأستاذ وأستاذ الجامعة نفسه مضطرّا للتفاني للحفاظ على ما تبقّى من هذا النّظام التربوي والحيلولة دون سقوطه النهائي فهل هذا يعني أنّه سيصمد إلى ما لا نهاية له؟ ما الذّي يدعو المربّي أن يجهد نفسه في تعليم أبناء الآخرين والحال أنّه يمكن له أن يؤدّي عمله دون إجهاد ما دام يتقاضى كلّ شهر أجرته التّي لم تعد هي الأخرى تفي بحاجاته؟ لا شيء يثبت أنّ هذا الأستاذ المثالي سيحافظ على نفس السّلوك ونفس التفاني. في الحقيقة لا تتعلّق المسألة بتغيير جذري للمؤسسة التربويّة والحال أنّ المجتمع يحافظ على نفس الأسس التّي ما فتئت تترسّخ في الأذهان والعقول وكأنّها قدر مسلّط علينا وجب التمسّك والقبول به.

في نظرنا لا يمكن لنظام تربوي مهما تعدّدت أشكاله وأدواته أن يتخلّص من الأدران التّي علقت به إلاّ متى كان يهدف للتحرّر الذّاتي الفردي والجماعي. فعندما يدعو البعض لتعليم ديمقراطي فإنّهم يلخّصون ذلك في ضمان حقّ كلّ الفئات في التعلّم وفي توفير الظّروف العادلة لكلّ ذلك والحقيقة أنّ هذا التصوّر السّطحي والسّاذج لا يرقى لمستوى الأزمة ولا ينفذ لأعماقها وللتحدّيات الفعليّة التّي تواجه التربية. فالدّيمقراطيّة ليست توزيعا عادلا لأشياء فاقدة للقيمة وللمحتوى أو لعلوم وتقنيات “محايدة” بل هي قبل كلّ شيء مساءلة متواصلة، فرديّة وجماعيّة للمؤسسات بما في ذلك المؤسسة التعليميّة ولمحتوى التعليم ذاته. لا بدّ أن لا يكتفي نقد هذه الأخيرة بالغوص في عوائقها الدّاخليّة بل لا بدّ أن يطال ذلك معنى وكنه هذه المؤسسة وطرح السؤال: أيّة تربية وأيّ تعليم وأيّ نظام تعليمي وتربوي وأيّة مؤسسات وأطر ضروريّة لذلك؟ ماذا نريد من المؤسسة التعليميّة بل ماذا نريد من المجتمع؟ أيّة تنمية نريد وأيّة بيئة وأيّة زراعة نبتغي؟ أيّ مستقبل للأجيال القادمة وأيّ جيل قادم نريد؟ كيف يمكننا تربية أفراد يتميّزون بروح النقد والمبادرة والبحث عن الحقيقة ويصهرون العلم في المجتمع فيصبح طلب العلم والحصول على المعارف لديهم بمثابة عمل فنّي ورغبة لا تقودها أغراض ضيّقة أو لمجرّد الحصول على شغل وضمان مصدر يمكّنهم من العيش والانصهار في مجتمع استهلاكي؟ لن تقدر الحلول التقنية الصرفة وتوفير الآلات والحواسيب على تجاوز الأزمة بل ما هي سوى نفي لها ولعمقها فالتربية (كما التعليم) ليست مسألة محايدة ولكنّها مشروطة بالمجتمع أفرادا ومجموعات وبالمؤسّسات والتصوّرات الذّهنيّة الغالبة والتّي يرتكز عليها المجتمع. بعد أن شجّعت العائلة أبناءها على التصرّف الفردي والأناني وتركتهم لقمة سائغة للتلفزيون والألعاب الالكترونيّة هاهي أفكار تدعّم هذا التوجّه وتدعو إلى عدم تدخّل الكهول في عمليّة انسجام الطّفل بمحيطه والعالم. قد يبرز هذا الموقف ديمقراطيّا إلى ما لا حدّ له: “اتركوهم لوحدهم يكتشفون ويقرّرون ثقوا في أطفالكم لا تفرضوا عليهم سلوكا محدّدا…”. إذا كان ذلك من شأنه أن يخفّف من ضغط الأولياء ويسمح في بعض الحالات بإطلاق مبادرات الطفل فلقد كانت له نتائج وخيمة على مجال التربية. فلقد جاءت النّتائج مناقضة تماما للوعود إذ راج وهم التكوين الذّاتي المستقلّ. في الحقيقة لا بدّ من التدخّل في حريّة هذا الطفل إلى حدّ معيّن لأنّه بذلك نسمح له بالتمكّن من تحرّر ذاتيّ حقيقي. فالتخلّي عن واجبات المصاحبة والمرافقة للطفل بٱسم حريّة مطلقة مزعومة هو تخلّي عن واجبات إعداد الطّفل كي يستقلّ بصفة فعليّة وواعية. لقد انتشر هذا الوباء وبلغ المؤسسة التعليميّة وأصبح بعض المدرّسين يغرون التلاميذ بإضافة أعداد إذا ما تمكّنوا من إعداد ملفّات بصفة مستقلّة وتامّة ودون أيّ توجيه أو مساعدة تذكر.

إن الهدف من كلّ سياسة هو تغيير المؤسسات وإنشاء أخرى. هناك نوعان من التغيير: فإمّا أن يقع من خلال غطاء شامل من التصوّرات المشتركة والمهيمنة والتّي تدّعي أنّ هذه التغييرات محكومة بقوى خفيّة (إمّا قدر محتوم أو يد خفيّة أو قوى التكنولوجيا المحايدة) أو أنها تكون نتاجا لإعمال الفكر والنّشاط وإيضاح المسائل بطرق جماعيّة وبتفاعل مختلف مكوّنات المجتمع أفرادا وجماعات.

كلّ المسؤولين الحاليّين عن سياسات التربية يردّدون أنّ الإصلاحات التّي يفرضونها على قطاع التعليم ما هي سوى تكريسا لتصوّر عالميّ فرض نفسه وفرضته التكنولوجيا المعاصرة والمحايدة وأنّه لا مندوحة من القبول بمنطق العصر أي قبول اللاّمنطق والانهزام. كل المشاريع الإصلاحية تقدّم نفسها ويقدمها أصحابها على أنها تستمد نفسها من العلم والتكنولوجيا المحايدة: مزيدا من الشاشات والحواسيب والآلات السمعية البصرية في المدارس والمعاهد والكليات. هذا هو الحل لقضايا التعليم. فالسمة الطاغية لهذا المجتمع هي الاعتقاد الوهمي في التكنوعلوم والخبراء وفي حياد العلوم وتنزيهها. العلم لا يعترف بالأخلاق والمسؤولية والشعور والفكر والنقد. هو محايد. كل نقد يوجّه إلى التجارب العلمية والتكنولوجية يحسب صاحبه على الرجعية والظلامية. قضية الحقيقة العلمية لا تطرح بما أن العلم لا يهتم بالماهية بل بكيف نغير ونطور الأشياء ونوجهها الوجهة التي نريد ونتحكّم في الكون ونصوغه حسب أهوائنا. لكن من قرّر الاختيارات والأولويات؟ لماذا كلّما تراءى لنا أننا تحكّمنا في الكون إلا وتراجعت سلطتنا: فهذه أمراض العصر تتفشى وهذه المؤسسات تنهار وهذا المجتمع يعيش حالة من التفكك. حتى البيداغوجيا قد تراجعت لتحلّ محلّها علوم التربية. فمن جملة الأنشطة البشرية وحدها العلوم تكتفي بحل المسائل دون أن تطرح أخرى وتتجنب التساؤل والحديث عن المسؤولية… من هذا المنطلق لابد من القضاء على كل اتصال بين “علوم التربية” المزعومة والفلسفة بل بينهما وبين مجرد التفكير والمراجعة والتساؤل. ففي الوقت الذّي كانت فيه التربية تشغل كلّ الفلاسفة بدءا بأفلاطون وأرسطو وصولا إلى روسو يظهر أنّ الفلسفة السياسيّة المعاصرة قد تناست وتجاهلت هذه المسألة مدّعية أنّ المجتمع ما هو سوى حصيلة لمجموعة أفراد وهؤلاء عليهم أن ينظّموا علاقاتهم وفق ما يقتضيه الحال. لنترك الأمور تسير بطبيعتها ووفق نموذج تستقيه من ذاتها ولنتخلّى عن كلّ تدخّل في شؤون المؤسسة التعليميّة فهي أدرى بقضاياها.

في نفس الوقت الذّي تطبّل فيه وسائل الدّعاية عن دور المجتمع المعاصر والتقنيات في تطوير القدرات الذّاتيّة للمواطن وتحريره نسائل أنفسنا إلى أيّ حدّ سمحت المؤسسات التعليميّة ببروز فكر مستقلّ ونقدي من داخلها وقادر على تجاوزها هي ذاتها؟ كلّ الجهود التّي تدّعي الإصلاح ومهما كانت النوايا الطيّبة التّي تقف وراءها والنابعة من داخل المؤسسة التعليميّة قد باءت بالفشل.

منذ القدم احتلّت التربية أهميّة محوريّة في حياة الشّعوب ونحن نعثر عليها في جلّ الحضارات. فهاهم الأثينيّون القدامى يطلقون عليها Païdeia أي تربية المواطن لضمان حياة ديمقراطيّة. إنّها تربية وتكوين ونشر قيم أخلاقيّة بمفهوم المسؤوليّة الاجتماعيّة وتماهي واعي مع المجموعة ومع تقاليدها وقيمها وهي تُسند لمؤسّسات عديدة ولا تقتصر على المدرسة. إنّها العائلة والنّادي والجمعيّة والنّشطاء المهتمّون بقضايا التربية… دور المربّي جماعي وفردي وهو ينصهر في مجتمع هو عبارة عن مؤسّسة مهمّتها التربية ولنقل التربية الذّاتيّة المستمرّة لمواطنيها. فالمجتمع الدّيمقراطي هو ذاك الذّي يراجع نفسه وخياراته باعتماد نشاط واعي ورأي مستنير لكلّ مواطنيه. لا علاقة تذكر بين هذه التربية كمثال ديمقراطي حقيقي وبين التربية المستندة على المشاهدة وتقبّل ما تبثّه أجهزة الدّعاية المرئيّة والمسموعة من مسلسلات وبرامج سخيفة وسطحيّة. فإذا أردنا أن نعيد للتربية وللتعليم دورهما علينا أن نقطع مع كلّ ذلك ونعيد للمجتمع دوره الحيوي. لا وجود لمجتمع ديمقراطي لا يعيد للتربية دورها المركزي في إعداد النشئ وفي خلق أفراد متحرّرين ذاتيّا أي مساءلة المعارف والمعلومات ومدى استجابة هذه التربية ذاتها لمتطلّبات المجتمع. فالمسألة أعمق من توفير الكتب والأدوات والمراجع والحواسيب والاعتمادات الماليّة الضخمة. لا بدّ إذن للمدرسة ولكلّ أشكال التربية والتعليم (والتربية والتعليم لا يقتصران على المؤسسات التعليميّة) أن تصبح قضايا عامّة تشغل بال كلّ المواطنين وبالتالي أن تكون محلّ نقاش وتدارس من طرف الجميع. فالحلول لا يمكن لها أن تقتصر على النخب والمختصين ومن داخل المؤسسة التعليميّة. كما أنّ العودة إلى العصور الذّهبيّة المزعومة لا تفي بالحاجة ولن تزيد سوى في تعميق الأزمة. إنّ تعليما لا يهدف إل تطوير القدرات الخاصّة للتلاميذ إلى أقصى مداها لا يمكن له أن يحقّق أهدافه. فالصّراع المزمن بين دعاة البيداغوجيا المفرطة (والذّين يضعون الطفل في محور النّظام التعليمي ويتغاضون عن دور المؤسسة التعليميّة) وبين الدّاعين إلى التربية على الطريقة القديمة (فرض التمكّن من بعض المعارف وحفظ بعض النصوص إضافة إلى فرض سلوك مغالي في الانضباط وأشكال عقاب مختلفة) غير مثمرة ما دام الهدف الحقيقي من البيداغوجيا ليس تعليم مواد محدّدة ولكن بالأساس تطوير قدرات التلميذ على التعلّم أي أن نعلّمهم كيف يتعلّمون ويكتشفون ويبتكرون. هذا لا ينفي أنّه على البيداغوجيا أن تسمح بتعليم بعض المواد والمعارف لكن هذه الأخيرة يجب أن تجسّد نقاط ارتكاز لا تسمح فقط بالحصول على كمّ محدّد من المعلومات والمعارف ولكن بالخصوص تطوير القدرات الخاصّة بالتلميذ على البحث والابتكار. من بين العناصر المعنيّة في هذا الحوار حول التربية العلاقة بين الأستاذ والتلميذ. باسم التخلّي عن البيداغوجيا المفرطة وقع تجنّب الحديث عن سلطة المربّي. فأن نتخلّى عن السلطة المطلقة للأستاذ فهذا شيء إيجابيّ: ليتذكّر كلّ المتشوّقين لعودة السلطة الفائقة الضريبة التّي قدّمها التلامذة (عنف جسدي – تحقير – إهانات) لكن بالمقابل لم نشهد بروز علاقة جديدة بين الأستاذ والتلميذ من نوع الصداقة التّي دعا لها عديد المفكّرين والتّي لم تفلح المؤسسة التعليميّة في غرسها والحال أنّ هذه العلاقة يمكن أن تمثّل الإسمنت الذّي من دونه لا يمكن الحديث عن بيداغوجيا وعن تعليم. إنّها قدرة المعلّمين على حفز ذاك “الأيروس” لدى التلامذة أي حبّ التلاميذ للمحتوى الذّي يتعلّمونه وحبّ المعرفة ذاتها. فبدون ذلك لا مجال للحديث عن مربّين وبدون ذلك لا يمكن أن ينشأ تلميذ قادر على الانفتاح على محيطه ومتسلّحا بمهجة فياضة لذلك البعد الهامّ في الوجود البشري ألا وهو المعرفة. لا بدّ أيضا للمربّي والمعلّم والأستاذ أن يتحمّس للتدريس الذّي يمثّل نوعا من الهواية أو الفنّ يسنده حبّ للأطفال. فالتعليم لا يقتصر على تبليغ المعارف والمعلومات بل هو جهد لمساعدة التلاميذ على الاستقلال الذّاتي وهو أيضا عمل يهدف لغرس حبّ المعرفة. هو بمثابة تحليل نفسي جماعي موجّه للأطفال والتلاميذ ودور المحلّل النفسي يتجسّد في مساعدة المريض على استعادة ثقته في نفسه وقدراته للتخلّص من عصابه واضطراباته النفسيّة القابلة للتحليل.

هذه المبادئ التّي نحدّدها والمتعلّقة بتصوّر لتربية ديمقراطيّة فعليّة ليست قوانين ثابتة وهي لا تستوفي المسألة. لكن المهمّ من كلّ ذلك أن نعي أنّ التربية الدّيمقراطيّة مسألة شاملة تخصّ كلّ المجتمع. لا يمكن أن نحقّق هذه الدّيمقراطيّة في ظلّ التخريب المتسارع للمجال العمومي وغياب أخلاقيّات تنبع من المجتمع ذاته لا تفرض عليه من ذلك المسؤوليّة والصراحة وتجنّب إيذاء الآخرين والمراقبة المتبادلة والوعي بأنّ التحدّيات شاملة وفرديّة ودعم قيم التضامن والكرم والعطاء والحسّ المشترك علما بأنّ هذه المعايير لن تنبع من أيّ قوّة خارجيّة ولكن يستعاد اكتشافها وخلقها وصياغتها كلّ مرّة من طرف المجتمع ذاته ولقد أثبتت لنا الانتفاضات الأخيرة أنّ الشعوب قادرة على صياغة مقاييس ومعايير من صلبها وأنّها لم تترقّب واعظا أو مرشدا أو قائدا حزبيّا أو داعية كي تكرّسها في تصرّفاتها. لن نتطرّق في هذا الكتاب إلى الشروط التّي يفترضها مجتمع ديمقراطي حقيقي لا مجرّد ديمقراطيّة شكليّة تدعو لحداثة متهاوية وفاقدة لبريقها ومتخليّة حتّى عن المعايير التّي دعت لها ولكنّنا نلخّص ذلك بوجود مؤسسات تسمح لكلّ المواطنين بممارسة النشاط السياسي الذّي لا نحصره في الأحزاب والخطب والشعارات بل هو يشمل كلّ مجالات الحياة اليوميّة. هذه المؤسسات لن تكون مجرّد أداة بل هي تعكس لحظة تجسّد وتيسّر السبل القادرة على تحقيق هذه الدّيمقراطيّة ولذلك لن تكون جامدة ولا نهائيّة وثابتة. إنّه المجتمع الشفاف الذّي لا يعرف الاستكانة ويوفّر للجميع شروط ممارسة حقوقهم وواجباتهم. قد يجيب البعض أنّ هذا وهم طاباوي صعب المنال لكنّ الحركات التّي عرفتها بلدان العالم قاطبة والمنادية بالديمقراطيّة الحقيقيّة Real Democracy بدءا بالبلدان العربيّة مرورا بالبلدان الغربيّة وحتّى بلدان آسيا تؤكّد أنّ هذا الحلم يمكن أن يصبح حقيقة.

لا يمكن للتربية والتعليم أن تحصر أهدافهما في إعداد جيل لسوق الشغل كما نعدّ آلة لمصنع كما لا يمكن أن ينحصر اهتمام الشاب في البحث عن الشغل والتخلّي عن إنسانيّته ليصبح مجرّد بضاعة تعرض في السوق. اليوم وقد بلغ الاقتصاد العالمي مرحلة اللاّعودة وتعمّقت الأزمات الاقتصاديّة والبيئيّة وبلغ استنزاف المصادر الطبيعيّة حدّا أصبح يهدّد وجود البشريّة فإنّه علينا مراجعة مسلّماتنا ومفاهيمنا وتصوّراتنا لكلّ القضايا والقطع مع الفكر الموروث يمينا كان أم يسارا ونقبل بالتحديد الذّاتي وتقاسم الخيرات وضمان العيش الكريم لكلّ المواطنين. أمّا مزيد الاستثمارات والنهب والتلويث وتخريب التربة والهواء فإنّه لن يمثّل الحلّ الجذري.

لماذا يعجز كلّ المسؤولين عن حلّ قضايا البطالة والتربية والتعليم مهما توفّرت لديهم العزيمة ومهما قدّموا من مجهودات وتصوّروا من إصلاحات؟ لماذا أصبحت البطالة مرض العصر لا ينجو منه مجتمع؟ لأنّ المقاربة ظلّت سجينة تصوّرات موروثة. لا التنمية ولا الاستثمارات الأجنبيّة ولا ضخّ المليارات من شأنه أن يحلّ المعضلة. فالحلّ يكمن في المجتمع ذاته: لنتصوّر منوال تنمية بيئيّة متضامنة ومتكاملة ومتناسقة تحترم إنسانيّة البشر وتحافظ على الكون والمحيط وتقبل بالتخلّص من مجتمع الاستهلاك وبتقاسم الخيرات. نعيد للأرياف بهجتها ونتخلّى عن العمران الوحشيّ الذّي يحشر الملايين والآلاف في أحياء لا تستجيب لمتطلّبات الحياة. لنجعل من التربية والتعليم أداة لخلق أفراد وشعوب قادرة على تحمّل المسؤوليّة لا عبيدا للمؤسّسات أو جيوشا من العاطلين المهمّشين.

نعود لنقول أن البلدان قاطبة ما فتئت تقوم بإصلاحات لنماذج تعليمها كي تتلاءم مع الواقع الاقتصادي. لكن الحقيقة هي أنه لا أحد يعلم ماذا سيكون عليه هذا الاقتصاد في المستقبل القريب والبعيد. أما الدوافع الأخرى لهذه الإصلاحات فتتلخّص في ملاءمة الثقافة المحلية أو الوطنية مع واقع العولمة الجديد. في السابق كان التلميذ يذهب للمدرسة ويجتهد للحصول على أحسن المعدلات والتمكن من شهادة تضمن له شغلا قارا. لكن اليوم لم تعد الشهادة تساوي الشغل. فنظام التعليم الذي وقعت صياغته في القرن التاسع عشر في البلدان الغربية وتبنته دول العالم قاطبة والذي أقر التعليم العمومي قد بلغ آخر المطاف. لقد انصهر مفهوم التعليم في تصوّر أشمل يرى فيه الأداة الضرورية للتحكّم في الكون والطبيعة وذلك من خلال خلق كفاءات فكرية. هكذا وقع تقسيم المواطنين إلى متعلّمين وأميين وأذكياء ومتخلفين فكريا علما بأن التقييم المعتمد كان يلغي أفرادا ومجموعات والحال أنهم يتمتعون بإمكانيات هائلة وفذة لم تقدر مقاييس التقييم المعتمدة على اكتشافها وإبرازها. أما اليوم فتتجاذب الطفل والتلميذ تقنيات مختلفة من حواسيب ووسائل الدعاية السمعية البصرية ومختلف أنواع الشاشات والهواتف المحمولة والفيديو وقد أدى ذلك إلى ضعف التركيز لدى الأطفال. بالنسبة للمسؤولين الحل تقنيّ ويكمن في تقديم وصفات طبية للأطفال لا تخلو من المخاطر. كان ولازال على المؤسسة التعليمية أن تستجيب لحاجيات المؤسسة الصناعية بل وتنتظم على شاكلتها: فصل التلاميذ، تجزئة المعارف، جمع التلاميذ حسب السن…. أما البيداغوجيا فرغم أنها لم تخضع تماما لهذا التصوّر إلا أنها قد أصيبت هي الأخرى بوباء التطابق والمقاييس المحددّة والاختبارات التقنية الصرفة. اليوم يتراءى لنا أن الإصلاح الحقيقي للمؤسسة التعليمية وللتربية بصفة عامة عليه أن يتّخذ مسارات متعدّدة ومتشابكة ويبتعد عن النظرة الوحيدة الجانب والتصورات المتقاربة التي تفضي لنتيجة أو رؤية واحدة. في الحقيقة تقوم المؤسسة التعليمية الحالية بفرض توجّه فريد يحدّ من القدرات الإبداعية للتلميذ وتستند فقط على القدرات الفردية والحال أن العمل في مجموعات يساهم في رفع هذه القدرات ويسمح بابتكارات جديدة. بطبيعة الحال لن يتأتى الإصلاح الحقيقي سوى بمشاركة كل المجتمع في هذه التصورات الجديدة ولن يوكل فقط للخبراء.

من ناحية أخرى وفي علاقة بالتشغيل نتساءل: هل نحن خلقنا فقط لنشتغل؟ فتاريخ الشغل هو كما بيّن ذلك عديد من المفكرين المعاصرين هو في الواقع تاريخ انتزاع القدرة على التفكير والخلق والمعنى من العمل وهو أيضا تاريخ انتزاع المعارف العملية والثقافة واحتكارها واختزالها في عمل روتيني واليوم هناك نزعة نحو القضاء على كل معنى من العمل. أغلبية العمال والموظفين لا يعلمون الفائدة من عملهم ويشعرون بالملل. لماذا نعمل ولأي هدف ولإنتاج ماذا وماذا تعني الحاجيات وأية حاجيات؟ هل نريد عملا لكي نضمن الدخل الضروري أم عملا يطوّر قدراتنا ويجعلنا نتعارف ونتحابب ونتلاقى ونتصوّر جميعا؟

يلاحظ المفكّر Paul Ariès أن معظم النظريات السياسية بما فيها الماركسية التي ندّدت باستغلال العمال لم تهتمّ بمسألة مركزية العمل ومحورية الاقتصاد بل قبلت بذلك وكأنها مسألة حتمية بل أن الماركسية قد دعت إلى تحقيق الوفرة لضمان العدالة. فلا عدالة مع الندرة وهكذا محكوم على البشرية أن تراكم الخيرات وصولا إلى المجتمع الشيوعي المنشود حيث “من كلّ حسب جهده ولكل حسب حاجياته”. لكن أية حاجيات وكيف يمكن لنا أن نحددّها إن هي ليست سوى تصوّرات ومعايير يفرضها المجتمع ويجعل منها هدفا يتقبله الجميع. فهل السيارة حاجة جماعية وهل يمكن لنا توفير سيارات لكل البشرية؟ نعتقد أنه قد حان الأوان للقطع مع محورية الاقتصاد والعمل وهذا شرط أساسي للتحرّر الفعلي. لا بدّ إذن من ضمان دخل متقارب لجميع المواطنين وتقاسم أوقات العمل الضروري كي لا يصبح التشغيل الشغل الشاغل للمواطنين ويتفرّغوا للابتكار والبحث والعمل الجماعي والعمل السياسي الحقيقي الذي لا نعني به الأحزاب والانتخابات الدورية بل المساهمة في الحياة الاجتماعية بجميع مظاهرها والعمل الثقافي والفني والنشاط البيئي. حياتنا لا يمكن تلخيصها في العمل والاستهلاك. نحن لا ندعو للكسل ونهاية العمل بل إلى الحد من العمل المفروض أو التافه والمخرّب للبيئة وللحياة الجماعية والفاقد للمعنى. لا يمكن تعميم الحياة الاستهلاكية للبلدان المصنّعة وحتى المدن الكبرى في بلدان الجنوب بل لا بدّ من القطع مع محورية الاقتصاد وهوس الاستهلاك. لنتساءل: لماذا لا يجد المواطنون في المناطق المهمّشة وحتى في المدن الكبرى مجالا حقيقيا لتدارس أوضاعهم سواء منها المتعلقة بالمسائل الاجتماعية أو البيئية؟ لماذا لا تفتح الملفات الخاصة بالقضاء على خصوبة التربة وتلوث المحيط وتناقص المصادر الطبيعية وتردّي الأوضاع المعشية لسكان الريف ولجحافل النازحين من الريف للمدينة ؟ لماذا لا تفتح ملفات التربية والتعليم والبطالة والعمران والصحة …؟ لأن المعنيين بالأمر أي المواطنين منشغلون في البحث عن شغل يوفّر لهم مورد الرزق ولأن الطلبة منذ أن تطأ أقدامهم الجامعة يبدؤون في التفكير في المستقبل الذي يبدو لهم قاتما ولأن التلاميذ لم يربّوا على التفكير في القضايا التي تهم المجموعة. ما من شك أن توفير دخل متقارب لكلّ المواطنين وضمان حق كلّ مواطن في العيش الكريم والذي لا يعني الالتحاق بمستوى استهلاك محدّد أو ذلك الذي تروّج له أجهزة الدعاية يمثّل الشرط الأوّل لتفرّغ الناس لقضاياهم الفعلية والمصيرية. لا يمكن للأقلية أن تستأثر بالخيرات وتؤجّل القضايا وتطالب هؤلاء المهمّشين بالتريّث لأن المسألة قد بلغت حدّا لم يعد فيه من الممكن المواصلة على نفس الوتيرة وبنفس التصوّر. المجتمعات بحاجة لانتفاضة الوجود إضافة لانتفاضة الضمير. فرفض الاستبداد والقهر لا يكفي لبناء المستقبل بل ما هو سوى حلقة ومرحلة لفهم الواقع واستبيان علله للقطع مع الحلم الاستهلاكي والمرور إلى مرحلة جديدة من العلاقات البشرية ومن العلاقات بين البشر والمحيط والكون.

إذن لا بد من صهر التحولات التي على القطاع التعليمي أن يخضع لها في تصوّر شامل يعيد النظر في المسلمات التي قبلنا بها على مدى عقود لا ليسترجع أفكارا بالية وسطحية أو ليعود لأحلام الماضي الوهمي الذي نتصوره في عقولنا بل لنخلق الجديد والمغاير. فلا التمسّك بحداثة واهية أو بالتقاليد البالية قادر على تعبيد الطريق بل على كل المواطنين أن يساهموا في هذا البناء المتواصل.

-XIV- خلاصة

لقد بلغ نموذج التعليم المعتمد حدّه. فعلاوة على أنّه أساسا تقليد لنظام عالمي يعاني من أزمة في عقر داره فإنّه فاقد لكلّ توجّه وتصوّر واضح ينسجم مع رؤية مستقبليّة تهيّئ الأجيال لتحمّل مسؤوليّاتها. يلاحظ العديد من المفكّرين أنّ هذا النّموذج يعود إلى القرن التّاسع عشر ويستند لرؤى تعدّاها الزّمن ولم تعد تتناسب مع المعارف والمعلومات خصوصا منها تلك التّي ينتجها المجتمع. يفسّر البعض تخلّف نظام التربية بالسّياسات النيوليبراليّة وهذا التفسير لا يرى سوى جانبا من المسألة والحال أنّه يعود إلى الأسس التّي بني عليها والمتمثّلة في نظرة وحيدة الجانب وتصوّر ميكانيكي للمجتمع وهذا التصوّر تتقاسمه عديد التيارات يمينا ويسارا وإن اختلفت الوسائل والأدوات كما أنه ينتشر في مختلف فئات المجتمع من العمّال ورجال الأعمال والسّياسيّين والخبراء. فمن ناحية نشاهد تعدّد الاختصاصات والميادين لكن كلّما زادت معارفنا وأصبحت دقيقة إلاّ وضاقت وارتبطت بميدان محدود. أمّا طريقة التدريس ومحتوى البرامج فهما منقطعان عن المجتمع وعن الحياة اليوميّة وغير مؤصّلتان في الواقع الملموس والمحيط. فهناك برامج تعليميّة يقرّها السّياسيّون والخبراء ورجال البيداغوجيا ويقرّون معها مقاييس التقدير والتقييم. كلّ المعارف التّي تخرج عن هذه البرامج لا قيمة لها: فالمؤسّسة التعليميّة تدير ظهرها للمعارف العمليّة والتقنيّة سواء تلك التّي راكمها المزارعون والصناعيّون أو الفنانون أو الأدباء. من ناحية أخرى ترسّخ المؤسّسة التعليميّة لدى الطّفل والتلميذ فكرة التميّز الطبقي والعلمي والتنافس الذّي قد يبلغ درجة العداء بين التلاميذ وصراع الكلّ ضدّ الكلّ والانتقاء والنخبويّة والاستحقاقيّة. تحتكر المؤسّسة التعليميّة المعارف ويصبح التعليم مرادفا للتدريس. لا مجال لغرس فكر نقدي تجاه كلّ ما تبلّغه المؤسّسة التعليميّة من معارف وتقنيات بل هناك ترسيخ لتقديس أعمى للتكنولوجيا. في الواقع تمرّر كلّ القوى السياسيّة يمينا ويسارا خطابها وتضفي عليه الصفة العلميّة وهذا انطلاقا من نظرة ترى فيها معارف محايدة وتتنكّر لانعكاساتها البيئيّة والاجتماعيّة. من ناحية أخرى هناك خلط بين التربية من ناحية وبين التعليم والبيداغوجيا من ناحية أخرى. فإذا كان التعليم يهدف إلى تبليغ المعارف فإنّ التربية تتجاوزه إلى الثقافة الواسعة بما تمثّله من تصوّرات وسلوك وعلاقات مع الآخر القريب منه والبعيد وذلك ضمن تصوّر منفتح على المستقبل ومسند لنظرة نقديّة لا تنقطع. يرى غالبيّة السياسيّين والمسؤولين والخبراء أنّه علينا حماية المؤسّسة التعليميّة من تسرّب أشياء دخيلة وغريبة لداخلها. فحتّى الدّعوة إلى انفتاح المؤسّسة التعليميّة على المحيط وعلى الحياة الاجتماعيّة والمهنيّة قد اقتصرت على بعض التربّصات المحدودة والخاضعة لمراقبة لصيقة من طرف المدرّسين. ينطلق هذا الموقف من مفهوم يعود إلى القرن الثامن عشر والتّاسع عشر ومفاده أنّ العلم لا يهدف إلى سبر أغوار الكون بصفتنا جزء منه ولكن إلى الهيمنة عليه والتوسّع اللاّمتناهي والتحكّم في كلّ خاصيّاته ومن هنا جاءت الوعود الوهميّة التّي ما فتئنا نسمعها: سنتحكّم في المستقبل الوراثي للكائنات الحيّة بما في ذلك الإنسان، سنقضي على كلّ الأمراض، سنتحكّم في الهواء والماء ونخضع الحياة، سنصبح أسياد العالم تماما كما جاء ذلك على لسان ديكارت. المعارف تشيّد في أماكن مخصّصة ومعزولة ومنفصلة عن المجتمع والمحيط ثمّ نسقطها على العالم لنعمّق تحكّمنا فيه. لقد تحوّلت العلوم إلى تكنو-علوم غايتها الوحيدة الرّبح المباشر. كلّ شيء جائز‼

يتساءل المفكّر Jacques Testard: “هل نريد جمهوريّة العلماء والنّخب أم ديمقراطيّة المعارف؟” لماذا هذه البحوث الدّقيقة حول التحوير الجيني للكائنات الحيّة والطاقة النوويّة والعلاج الجيني بدل البحث في أشكال ونماذج الزّراعات وتحسين الأنواع المحليّة والطاقة البديلة وطرق مواجهة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيويّة التّي تراجع مفعولها والبحث حول التلوّث وفي قضايا البيئة والماء والتصحّر والإنجراف والتّقنيات الملائمة للنّشاط الزّراعي. ففي مدارسنا وكليّاتنا لا مكان للدّراسات البيئيّة والقضايا التّي ترتبط بالحياة اليوميّة التّي سيواجهها التلميذ بعد تخرّجه. فالطالب يجهل الكثير عن القضايا الخاصّة بمحيطه البيئيّ وحتّى مسقط رأسه وجهته بما تحويه من طبيعة ومصادر وآثار وما تختزنه من تاريخ وإرث معرفي وأدبي وفكري…

تكمن المفارقة إذن في جعل التعليم الذّي احتكر مهمّة التربية الأداة الوحيدة للاندماج الاجتماعي والحال أنّ برامج التعليم وأساليب التبليغ هي أبعد من أن تساعد على بروز مواطن متحرّر ذاتيّا وقادر على تحمّل مسؤوليّاته والمساهمة في تطوير المجتمع لما فيه خير المجموعة بل هناك غرس للعقليّة الأنانيّة الضيّقة ولاحتقار كلّ القضايا التّي لا تتعلّق بميدان اختصاصه. من سخريّة التاريخ أنّ العديد من الابتكارات والاختراعات قد جاءت من عناصر لا تمتّ للميدان الخاصّ بها بل أنّ رغبتهم في البحث وتعلّقهم بالمسائل التّي أدّت لتلكم الاختراعات كان الحافز الأساسي لنشاطهم.

من مهام المؤسّسة التعليميّة إعداد التلاميذ والطلبة “لسوق الشغل” وهذا ما اتفق عليه كلّ الخبراء في العالم لكنّها قد تحوّلت إلى خزّان يرمي بجيوش العاطلين كلّ سنة في مجتمع فقد المعاني ولم يعد يعلم ماذا يبتغي.

أيّ حياة وأيّ مجتمع وأيّة تنمية وأيّة ثقافة وأيّة بيئة وأيّة زراعة وأيّ تعليم نريد؟ يردّد البعض: التشغيل استحقاق وهذا طلب شرعيّ وضروري ولا يمكن التشكيك في أحقيّته. لكن أيّ شغل ولأيّ نشاط ولأيّ هدف؟ “نريد شغلا يخرجنا من حالة البطالة ويحفظ لنا كرامتنا ونشعر بأنّنا نقوم بوظيفة مفيدة للمجتمع ونحقّق ذواتنا بالشّغل ونضمن دخلا يمكّننا من مواجهة مطالب وحاجيات الحياة… نريد التنمية التّي ستضمن مواطن الشّغل…” تلك هي المطالب التّي حرّكت جموع العاطلين والمهمّشين.

تجاه الأزمة التّي تنخر اقتصاد العالم والتّي ما فتئت تتعمّق واستفحال ظاهرة البطالة في كلّ أصقاع العالم وانهيار سياسات التعليم وتفكّك المجتمعات وتراجع دور العائلة والمحيط في تربية الأجيال تطلع علينا كلّ يوم بدائل وإصلاحات وقرارات لكنّها كلّها لم تخرج من عباءة الاقتصاد وسلطانه. البدائل اقتصاديّة بحتة لأنّ العالم المعاصر قد وضع الاقتصاد في محور الحياة. لقد تحوّل العالم أجمع إلى محتشد للشغل يغمرنا بحضوره الدّائم. فأوّل سؤال يتبادر لشخص يلتقي بشخص آخر هو: ماذا تعمل؟ هذا الحضور الدّائم يجعلنا نستنبطه كحقيقة مطلقة ويجعل الوعي به عديما إذ أنّه أصبح مسلّمة راسخة في الأذهان. كلّنا نخضع لهذه الآلة الكونيّة للشغل ولهذا النّشاط ذي الطبيعة السلعيّة سواء كنّا موظّفين أو عمّالا أو رجال أعمالا، أغنياء وفقراء. تغافلنا عن حقيقة أن البطالة هي ربيبة للشغل ولمفهوم سائد له. أصبح تعريف الذّين لم يتمكّنوا من الحصول على عمل بعلاقة بهذا الأخير: هؤلاء عاطلون‼ نسينا كلّ التعابير الأخرى مثل المهنة والنّشاط والأثر الفنّي والهواية والإبداع والخلق والتعاون والتضامن والعطاء واستبدلناها بالمواد المتآكلة ومستوى العيش والمكتسبات والقدرة على الاستهلاك والتبذير والقدرة الشرائيّة والحرفاء ونوعيّة السيارة… من ناحية أخرى يرسّخ المجتمع فكرة تقديس الخبراء وسلطانهم لاعتبار أنّ العلم محايد وأنّ هؤلاء يمثّلون النّخبة النيّرة التّي أفرزها نظام التعليم بل إنّ الحلول المقترحة لكلّ المعضلات التّي يمرّ بها المجتمع توكل لهم وتمرّ عبرهم لأنّ المجتمع قد ترسّخت في أوساطه فكرة الرّعاية وتخلّيه عن واجباته وأهمّها المساهمة في نحت المستقبل. حين تسأل مواطنا لماذا يتقاضى هذا الخبير أو المسؤول هذا الأجر المرتفع والخيالي أو لماذا يتمكّن هذا المختصّ من دخل يفوق دخل مواطن عادي مئات المرّات يجيبك دون تفكير أو تردّد: “قرا على رُوحُو” الكلّ يمينا ويسارا يتّفقون على ذلك (من سخريّة التاريخ أن يدعو اليساريّون لسلطة تكنوقراط وكأنّ هذه الصفة تجعلهم محايدين سياسيّا). لكن هاهي ذي الأزمة الاقتصاديّة وهذا التخريب الذّي طال المجال الزّراعي والقضاء على التوازنات البيئيّة وتهديد حياة النّاس بالطاقة النّوويّة والمبيدات كلّها كانت بتصوّر “عقلاني” مزعوم من هؤلاء الخبراء والنتيجة هذا الجيش من المعطلين وهذه السّيول من النازحين وهذا الإهدار لمصادر المياه والبحار وتخريب التربة وهاهم المزارعون ينقطعون عن نشاطهم بعد أن فرض عليهم الخبراء والعلماء والمهندسون نموذجا كيميائيّا وصناعيّا لزراعة أصبحت مصدرا للأمراض وأدّت إلى إفلاس أعداد متزايدة من المزارعين‼ هل نثق في الخبراء والعلماء في عصر عرف انتشار أمراض العصر من أمراض القلب والشرايين وأمراض السّرطان والحساسيّة ومرض جنون البقر وأنفلونزا الطيور والخنازير والأمراض التّي تسبّبها المبيدات والإسبست والمعادن الثقيلة والنفايات النوويّة والأمراض النفسيّة التّي تصاحب الحياة في المدن الملوّثة والمكتظّة بسكّانها حيث تنتشر فيها البناءات الشاهقة بفضل العلوم والتكنولوجيا.

كلّ النماذج الاقتصاديّة العصريّة كما الحسابات الرّياضيّة والمشاريع لم تقدر على القضاء على البطالة. فرجال الاقتصاد وخبراء التنمية ومؤسّسات الدّراسات الاستشرافيّة يهتمّون بالتخطيط وبرمجة الاستثمارات وخلق الظّروف الملائمة لبعث مواطن الشّغل. في الحقيقة يمكن الجزم بأنّ جلّ هؤلاء الخبراء هم أيضا ضحيّة للتصوّر المهيمن ويستبطنون التصوّرات الغالبة في المجتمع ويعتقدون أنّهم ينفّذون ويطبّقون قوانين علميّة واختيارات عقلانيّة صرفة. فعندما يمتلئ دماغنا بمطرقة تبدو لنا كلّ الأشياء في شكل مسامير. التّاريخ القريب منه والبعيد يبرز لنا فشلهم في صياغة حلول لهذه المعضلات بل إنّهم يقرّون اليوم بهذا الفشل وأنّه من المستحيل القضاء على البطالة هذا الشرّ الذّي لا بدّ منه أو أنّهم يرجئون الحلّ إلى غد غير معلوم. ترقّبوا! اسمحوا لنا بمهلة حتّى نتوصّل إلى الحلّ المنشود! هذا أقصى ما يمكن القيام به!

هل التنمية هي الحلّ؟ لكن أيّة تنمية؟ فهذه التنمية تتعطّل في البلدان الصناعيّة ذاتها وحتّى الصّين الشّعبيّة هذه القوّة الاقتصاديّة الصاعدة والثّانية عالميّا تعرف استفحالا لظاهرة البطالة التّي بلغت 22 بالمائة بينما تعمّقت قضاياها البيئيّة النّاتجة عن السّياسة الرّأسماليّة الفاحشة ويقدّر كلّ الخبراء أنّ العامل البيئي سيحدّ من سرعة نموّ هذا البلد. لن تقدر الاستثمارات الأجنبيّة سواء منها المتأتيّة من البلدان المصنّعة أو من بلدان البترودولار على القضاء على البطالة وكلّ ما يُمكن أن تقوم به هو الحدّ منها ولمدّة محدودة. لا مندوحة إذن من مراجعة منوال التنمية بما في ذلك علاقة التعليم والتربية بالمجتمع. كلّ الإصلاحات المتعاقبة التّي يعرفها مجال التعليم والتّي أصبحت تخضع للاتفاقيّات الدّوليّة التّي أقرّتها المنظّمة العالميّة للتجارة قد برز إفلاسها للجميع. فهذا التعليم المعاصر يزيد في تعميق الهوّة بين نخبة معولمة وغالبيّة معرّضة للتهميش والبطالة. في الحقيقة تواجه البشريّة جمعاء نفس التحدّيات وما أدلّ على ذلك سوى الإحصائيّات الخاصّة بالبطالة ولا مخرج من الأزمة إلاّ بالوعي بعمقها وارتباطها بالاختيارات العامّة والانتقال إلى تصوّر جديد يقطع مع مجتمع الاستهلاك ويرسي أسس تضامن ديمقراطي حقيقي لا تقتصر على الحريّات الفرديّة والانتخابات الدّوريّة بل تتعدّاها إلى كلّ المجالات الاقتصاديّة منها والعلميّة والثقافيّة والبيئيّة وذلك بتشريك كلّ القوى الفاعلة والمعنيّة في القرار.

ليست هذه دعوة إلى استعادة تجارب مفلسة ادّعى أصحابها أنّهم يمثّلون الشّعب وأرسوا دكتاتوريّة جثمت على صدور الشّعوب طيلة عقود. ففي هذه البلدان سواء منها الفاشية أو الستالينية أو حتى ذات التوجه القومي الشوفيني تحوّل التعليم أساسا إلى أداة للدعاية الأيديولوجية وزرع عقلية الرضوخ للحزب الواحد والتصوّر الواحد والخنوع للأوامر وقد كانت المؤسسات التعليمية بمثابة ثكنات للجيش. مواقفنا نستمدّ جذورها من الحركة الفعليّة للشعوب والتّي برزت معالمها حديثا من خلال المطالبة بالدّيمقراطيّة الحقيقة والتّي ترفض أن تنوب أقليّة أو نخبة بيروقراطية عن الشعب وتقرّر مصيره. فعلى سبيل المثال وتجاه الأزمة العميقة التّي يعرفها القطاع الزّراعي والبيئي بصفة عامّة خلص العديد من المزارعين في العالم والباحثين وحتّى المنظّمة العالميّة للزراعة إلى أنّ نموذج الزّراعة الصناعيّة الكيميائيّة المهدرة للتربة ولمصادر المياه أصبح يهدّد بكارثة غذائيّة وصحيّة وأنّه لا مندوحة من التحويل البيئي للاقتصاد بما في ذلك مجال الزّراعة والقطع مع الأساليب المخرّبة والملوّثة للمحيط. ثمّ إنّ هذه السياسة قد أدّت إلى تهجير الأرياف وإفلاس المزارعين والرّفع من أعداد العاطلين. كنتيجة للفلاحة الكيميائية وحسب دراسات رسمية لوزارتي الفلاحة والبيئة 93 بالمائة من التربة التونسية الصالحة للزراعة معرضة للتلف ولتناقص الخصوبة بينما 74 بالمائة منها معرّضة للانجراف و31 بالمائة منها قد بلغت حدّا كبيرا من التّدهور وقد عرفت الأرياف نزيفا تمثل في هجرة المزارعين وأصبح معدّل السن في المناطق الريفية 53 سنة.

نحن لا ننطلق في تصوّراتنا من أفكار مسبّقة أو من مرجعيّات محنّطة ومحفوظة أو من أيديولوجيا ولكن من تقييم للواقع المعاش وقد حان الوقت لتعديل عقارب السّاعة. سأل أحدهم صديقا له: “أيّ عالم سنتركه للأجيال القادمة؟” أجابه: “بل قل لأيّ جيل سنترك هذا العالم؟”. كيف نجعل من التعليم والتربية بصفة عامّة أداة لدمج المواطنين في المجتمع وتهيئته لخوض تجربة الحياة بأبعادها المختلفة والتّي لا تقتصر على المجال الاقتصادي؟ يكمن الحلّ في تضامن المجتمع وهذا الأخير يفترض تصوّرا مغايرا ويفترض أيضا تشريك كلّ القوى الفاعلة في الاختيارات وإرساء عدالة اجتماعيّة فعليّة. المجتمع مطالب بخوض كل القضايا بوعي ثاقب وروح نقديّة وبتبني الجديد وتصوّر المغاير وهذه مسألة تتجاوز القضايا الخاصّة بالتعليم والتشغيل.


المراجع

1- Hannah Arendt, La crise de l’éducation, in la crise de la culture,Folio, 1991.

2- Paul Ariès : L’enfant et la vie familiale sous l’ancien régime, seuil 1993.

3- Paul Ariès : Le bonheur n’est pas dans le toujours plus, Sarkophage, Février 2011.

4- Jacques Ardoino : Information et communication dans les groupes de travail et les organisations, collections travaux et documents, IEA, Gauthier Villars, Paris 1978.

5- Jean Ardoino : Les jeux de l’imaginaire et le travail de l’éducation, Sciences de l’éducation, décembre 1984_janvier 1985, Paris VIII.

6- M-C Blais et Marcel Gauchet : Pour une philosophie politique de l’éducation, Bayard, 2002.

7- Rudolf Bkouch : A quoi sert l’école, Repères-IREM, n°44, juillet2001.

8- Sophie Boutillier : Le travail et l’utopie, analyse du travail dans les théories de Ssimondi, Fourier, Proudhon, Marx, Engels, Godin et Lafargue, XI èmes rencontres de RIUESS Poitiers, 15-17 juin 2011, L’économie sociale et solidaire et le travail.

9- André Brassard : Un phénomène majeur, la sociologie de l’éduaction et la transformation face à la mondialisation, Education et Sociétés, n°16, 2005/2.

10- Saïd Ben Sedrine et Eric Gobe : Les ingénieurs tunisiens, L’Harmattan, 2004.

11- Cornélius Castoriadis : L’institution imaginaire de la société, Seuil, 1975.

12- Cornélius Castoriadis : Une société à la dérive, Seuil, 2005.

13- Cornélius Castoriadis : La crise du processus identificatoire, in La montée de l’insgnifiance, Le seuil, Paris, 1996.

14- Cornélius Castoriadis : Le régime social de la Russie, in les carrefours du labyrinthe, Seuil 1986.

15- Cornélius Castoriadis : Psyché et éducation in Figures du pensable, seuil 1999.

16- Sebastien Chapellon : L’autorité familiale entre crise et conflit : Le divan familial, CAIRN, 135-147

17- Myriam Revault D’Allonnes : Hannah Arendt penseur de la crise, Etudes, CAIRN, 197-206.

18- Dany-Robert Dufour : La fabrique de l’enfant « post-moderne », le monde diplomatique, février 2001.

19- François Dubet : L’école ne saurait seule réduire les inégélités, entretien avec Mediapart, 9 décembre 2010.

20- Cédric Frétigné : Les entreprises d’entraînement, logique formative ou logique productive, Education et Sociétés, n°7, 2001/1.

21- Jean Gadrey : Adieu à la croissance, Les Petits Matins, 2011.

22- Philippe Godard : Tout ce qui est mauvais est bon pour la jeunesse, Echanges n°35, hiver 2010-2011.

23- Christiane Gohier, Luc Desautels , Jacques Joly, France Jutras et Jean Gabin Ntebutse : Les préoccupations éthiques des enseignants de l’ordre collégial, McGill Journal of Education, Volume n°45, N°3, 2010.

24- Sous la direction de Vincent Geisser : Diplômés maghrébins d’ici et d’ailleurs, CNRS Editions, Paris 2000.

25- Nico Hirtt : L’école prostituée, Edition Labor, 2001.

26- Walo Hutmacher : Enjeux éducatifs de la mondialisation, De Boeck Université, Education et sociétés, 2005/2 n°16, Pages 41-51.

27- Francis Imbert, Pour une praxis pédagogique, PI, Matrice, Paris, 1986.

28- Albert Jacquard : Le néolibéralisme va perdre nécessairement, Le Taon, Montréal, colloque de 1998.

29- Pierre Kahn : La philosophie de l’éducation au miroir de l’histoire, Presses universitaires de Caen, 2006/2, n°30, 131-136.

30- Hervé Kempf : L’oligarchie, ça suffit, vive la démocratie, Conférence d’Hervé Kempf à l’ENS, 13 janvier 2011.

31- Thomas Lamarche : L’éducation et la nouvelle nature du cpitalisme, Revue ECOREV, décembre 2006.

32- Thomas Lamarche : Education et capitalisme, Sylllepse-Nouveaux Regards, Paris 2006.

33- Sylvie Laurent: La réforme scolaire de Barack Obama, les ambiguïtés du pragmatisme, CAIRN, 2008, Le débat, 46-60.

34- Olivia Leboye : Singularités de la pensée libérale dans le domaine de l’éducation, in Le souci de l’élite chez les libéraux, Editions CNRS, 2011.

35- Christopher Lash : La culture du narcissisme, Climats 2000, champs Flammarion.

36- J.P. Legoff : La barbarie douce, la découverte, paris 1999.

37- Lilianne Lurçat : Vers une école totalitaire, F-X de Guilobert, Paris 2001.

38- Lionel Larqué : Savoirs et transmission, sortir du XIX siècle, Altermondes, Sciences et démocratie, un mariage de raison ?, numéro spécial juin2011.

39- Jean-Marc Levy-Leblond, la science est-elle universelle, Le Monde diplomatique, mai 2006.

40- Eloi Laurent : Ecologie et inégalités, Revue e l’OFCE, avril 2009.

41- Jean-Luc Leylavergne : Travail et crise du conflit politique dans les Sociétés occidentales, Revue Noir&Rouge, n°28, 1993.

42- Louis Marion : L’éducation rempart contre la barbarie qui s’en vient ou moulage au salariat ?, L’objecteur de croissance, Vol 3-4, Automne 2011.

43- Revue MAUSS : L’université en crise, mort ou résurrection, n°33, Premier semestre 2009.

44- Philippe Meirieu : Pédagogie et anti-pédagogie, comprendre et résister, Bloc-notes, 2 novembre 2007.

45- Gérard Mendel : Autorité et éducation, Conférence à l’ISP, 26 novembre 2002.

46- Jean Claude Michéa : Impasse Adam Smith, champs Flammarion, 2006.

47- Jean Claude Michéa : L’enseignement de l’ignorance, Climats 1999.

48- Edgar Morin et Jacques Ardoino : L’anthropologie culturelle et la socioanalyse propédeutique à tout traitement scientifique des situations et des faits éducatifs, in Colloque National, Sciences anthroposociales et sciences de l’éducation, AECSE, Paris, 1983.

49- Pascale Phélinas : Mésurer l’emploi, le chômage et les sous-emploi rural dans une économie en voie de développement, Revue Française de socio-économie, CAIRN, 103-121.

50- Olivier Reboul : La philosophie de l’éducation, Paris, Ed. PUF. Coll. Que sais-je ? neuvième édition, 2001.

51- Marion Solletty : Le chômage des diplômés, moteur de la révolte tunisienne, Journal Le Monde, 10 Janvier 2011.

52- Jacques Testart : La recherche confisquée par l’innovation marchande, Revue Alliage n° 61, octobre 2007.

53- Claude Trottier : La sociologie de l’éducation et l’insertion professionnelle des jeunes, Education et Sociétés, n°7, 2001/1.

54- Jean Zin : Un revenu pour travailler, Politique, 14 décembre 2011.

==============================================

نقلا عن : https://collectiflieuxcommuns.fr/spip/spip.php?article615&lang=grc&debut_article_rubrique_date=20

==============================================

عن د مصطفى جودت

أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك بجامعة الملك سعود ، وجامعة حلوان مدير تطوير المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود
error: Content is protected !!
التخطي إلى شريط الأدوات