نظريات ومفاهيم لم تعد مستخدمة في التصميم التعليمي : عصر ما بعد الأهرامات

نظريات ومفاهيم لم تعد مستخدمة في التصميم التعليمي: عصر ما بعد الأهرامات

د. مصطفى جودت صالح
Dr. Mostafa Gawdat Saleh
إعداد. د. مصطفى جودت صالح

يعتمد مجال تكنولوجيا التعليم بشكل عام والتصميم التعليمي على وجه الخصوص على عديد من نماذج التعلم ونظرياته ومفاهيمه، والتي ينظر إليها كمدرسة فكرية ومنهجية أكاديمية لها ما يمكن أن نطلق عليه فترة صلاحية حيث تنشأ وتجرب ويبدأ الناس في تأييدها والإيمان بها ثم يقوم المصممون التعليميون بتبنيها في تصميماتهم وبعد فترة يتراجع الاهتمام بها حيث تنشأ نماذج ونظريات ومدارس أحدث أو تظهر بحوث تفند ما جاءت به تلك النماذج والنظريات وتثبت عدم فاعليتها، أو في أحسن الأحوال نتيجة التطور التكنولوجي نصبح في حاجة إلى ظهور ممارسات تلبي الاحتياجات المتجددة للمجال مما يجعل خيار تعديلها وحديثها خيارا حتميا.

لكن على جانب آخر نرى أن البعض يظل مخلصا في تصميماته لمفاهيم ونظريات لم تعد مواكبة للتخيرات والتحديثات التي يشهدها المجال التربوي أو تم ضحدها علميا في جيل كامل من البحوث الأكاديمية، وعن هذه النظريات والمفاهيم تحديدا رايت أن أكتب هذا المقال الذي من شأنه تنبيه المصمم التعليمي حول خطأ تبنيه أو أعتماده فقط عليها. ورغم أني أعلم بشكل شبه مؤكد أن هذا المقال قد يغضب بعض الزملاء والباحثين المتعصبين لبعض تلك النماذج والنظريات خصوصا إن كانوا قد بنوا بعض دراساتهم الأكاديمية عليها، لكني سأعتمد في هذا المقال على المصادر والبحوث التي ضحدتها وأحاول أن القي الضوء على التوجهات المعاصرة فيما يتعلق بها.

وعلى القارئ ملاحظة أن اخياري لتلك النظريات والمفاهيم تم في ضوء عدة عوامل منها مدى انتشارها بين المصممين التعليميين وصغار الباحثين مما يجعل من المهم توضيح أن هذه النظريات والمفاهيم ظهر من البحوث والدراسات ما يخالفها أويضحدها بالكلية ، وقد تستغربون أن بعض تلك النظريات والنماذج أشار أصحابها أنفسهم إلى محدودية تأثيرها على أرض الواقع أو خالفها في كتابات لاحقة.
أخيرا العمل الحالي يتكون من جزئين الجزء الأول سميته مجازا عصر ما بعد الاهرامات حيث يتناول أربع موضوعات الأول يخص إدراكنا للصورة وهو مفهوم بني على مقولة عامة ثم يناقش هذا الجزء ثلاث أهرامات أو نماذج هرمية على وجه الدقة يليه جزء آخر بإذن الله يتناول بعض النظريات التي كان لها نصيب كبير من اهتمام البحوث والدراسات العلمية لكنها أصبحت تحتاج لإعادة نظر أو تطوير .

الصورة تساوي ألف كلمة A picture is worth a thousand words

ظهرت هذه العبارة في الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل القرن العشرين. تُنسب العبارة على نطاق واسع إلى فريدريك ر. بارنارد، الذي نشر مقالًا يشيد بفعالية الرسومات في مجال الدعاية والإعلان بعنوان “نظرة واحدة تساوي ألف كلمة”، في، ديسمبر 1921. وادعى بارنارد أن مصدر العبارة مثل صيني، بينما نسبها البعض إلى اليابان وعمد البعض الآخر إلى تفنيدها وأنها محض اختراع الكاتب. وبغض النظر عن أصل العبارة فإنها من أوائل ما قرأناه في دراستنا لمجال تكنولوجيا التعليم – أقصد جيلي – ، وقد أثرت هذه المقولة أو المثل بشكل كبير على المصممين التعليميين حيث ندر أن تجد في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كتاب في تصميم الوسائل التعليمية لا يستشهد بها، وظهرت لدينا الكتب المصورة والشرائح والأفلام الثابتة ووسائل تعتمد على الصورة كأساس لإدراك المعنى.

لكن على جانب آخر كشفت أبحاث علم الأعصاب والدراسات المرتبطة بآليات الإدراك عن أهمية الصورة لكنها لا تغني أبدا عن النصوص المكتوبة والمنطوقة وخصوصا في الوقت الحالي. فقد أدى التقدم السريع في بحوث تفاعل الإنسان مع الآلة ( ومن ذلك أنظمة الحاسب) إلى زيادة هائلة في كمية البيانات والمعلومات المتاحة لنا والتي أعدت على إثرها عديد من دراسات التحليل البعدي التي ساهمت بدورها في فهم آلية إدراك الإنسان للمفاهيم من خلال الصورة والنص، حيث تختلف أساليب معالجة أدمعتنا للصورة المرئية ( الثابتة والمتحركة ) عن إدراك النصوص المكتوبة والمسموعة والأصوات، كما أن الذاكرة العاملة المستخدمة في تفسير دلالات الرسومات والصور تزيد عن تلك المستخدمة في فهم النصوص- ذلك في حالات الإدراك الواعي للصور والنصوص- ورغم هذا فإن إدراك الصور يكون أسرع بنحو 90% عن إدراك النص مع حدوث حالات أختلاف في تفسير الصور عن تفسير النصوص، فالصورة قد تثير معان كثيرة في ذهن المتلقي عكس النصوص التي تكون أكثر مباشرة، ولعل هذا قد يكون مزعجا للمصمم التعليمي الذي يكون على عاتقه اختيار الصورة المناسبة التي يضمن أن توصل المعنى بدقة.

يستجيب الناس بقوة أكبر للمعلومات المرئية. أظهرت الأبحاث أن العقل البشري يعالج الصور أسرع بـ 60 ألف مرة من معالجة النص. 90% من المعلومات التي تنتقل إلى الدماغ تكون بصرية. يمكن أن يكون استخدام الصور في التصميم فعالاً للغاية في المساعدة على التواصل والاتصال. ولعل هذا ما جعل إشارات المرور عبارة عن صور ورموز مجردة بدلا من النصوص المكتوبة

على جانب آخر بينت الدراسات أن أدمغتنا تعالج المواد البصرية ( الصور والرموز االبصرية ) بشكل مختلف تمامًا عن النصوص المكتوبة والمسموعة. يكفي أنك كإنسان من الممكن أن تدرك العناصر البصرية دون وعي أو تعمد – خصوصا الرموز المجردة – أما العناصر اللفظية خاصة النصوص المكتوبة فإنها تحتاج لوعي كي يدركها الإنسان.

أكدت البحوث الحديثة القائمة على فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) على وجود نظام ترميز مزدوج يتم من خلاله معالجة المدخلات المرئية والنصية / الصوتية في قنوات منفصلة ، مما يوفر إمكانية تعزيز التعلم بشكل متزامن. خلاصة القول هي أن الطلاب الذين يستخدمون محتوى تعليمي متعدد الوسائل مصمم جيدًا يتعلمون أكثر من الطلاب الذين يعتمدون على الصورة أو النص بشكل منفرد، وأن تجاور وتزامن الوسائل المستخدمة في المحتوى تؤثر بشكل كبير على إدراك المعنى.

نظرية الترميز الثنائي : هي نظرية معرفية تفترض أن الذاكرة البشرية تتكون من نظامين لترميز المعلومات:

  • الترميز اللفظي: وهو النظام الأول، ويتعلق بالتعامل مع الوحدات اللغوية والبنية اللغوية المجردة.
  • الترميز غير اللفظي: وهو النظام الثاني، ويتعلق بالمعلومات المادية العيانية والمحسوسة مثل الصور والأصوات البيئية والأنماط الكتابية.

بمعنى آخر:

  • الترميز اللفظي: يخزن المعلومات ككلمات أو جمل.
  • الترميز غير اللفظي: يخزن المعلومات كصور أو مشاعر أو حركات.

مزايا نظرية الترميز الثنائي:

  • تساعد على تفسير كيفية تعلم الناس وتذكر المعلومات.
  • توفر إطارًا لفهم كيفية عمل الذاكرة البشرية.
  • يمكن استخدامها لتحسين طرق التعليم والتدريس.
Dual Coding Theory (Allan Paivio) – InstructionalDesign.org. (2018, November 30). Retrieved from https://www.instructionaldesign.org/theories/dual-coding

المشكلة في مقولة “الصورة تساوي ألف كلمة” هي أنها تنشئ معركة زائفة بين الكلمات والصور. يقترح أن صورة واحدة يمكن أن تتطابق مع الكلمات أو تحل محلها أو تتفوق على تأثيرها. ادعاء يقارن بين التفاح والبرتقال ويتناقض مع تجربتنا اليومية. نحن في تصميم محتوانا التعليمي نحتاج إلى فهم كيفية توظيف كل من الصورة والنص للتعبير عن المعنى ونقل الخبرات. أو بشكل أدق نحتاج لمعرفة متى نستخدم الصور، ومتى نستخدم الكلمات، ومتى يكون استخدام كليهما فعالاً.

هرم التعلم The Learning Pyramid:

يربط علماء الانثروبولوجيا عصر الحضارة بعصر الأهرامات، ولعل هذا حدث نسبيا معنا في مجال التربية، فغالبًا ما يستشهد التربويون إلى يومنا هذا بما يطلق عليه هرم التعلم ويعتبرونه أساسا لتصميم أنشطة التعلم، حيث يقترح هرم التعلم أن المتعلمين يحتفظون بالمعلومات بشكل أفضل من خلال طرق عرض وإدراك متنوعة (مثل تعليم الآخرين، والمناقشات الجماعية، وما إلى ذلك). ومع ذلك، يفتقر هذا النموذج للأدلة التجريبية وهو موجود منذ أكثر من 160 عامًا. يفترض هرم التعلم أننا نتذكر…
10٪ مما نقرأ
20٪ مما نسمع
30٪ مما نرى
50٪ مما نرى ونسمع
70٪ مما نقول
90٪ مما نقول ونفعل

وجد الباحثون أن هرم التعلم لم ينشأ عن بحث، وأن مفهومه للذاكرة يختلف اختلافًا كبيرًا عن نتائج دراسات علم النفس المعرفي القياسي.بل أن هناك قاعدة في مراجعة إحصاءات ونتائج البحوث العلمية مفادها أن أي بحيث جميع نتائجه تقبل القسمة على 5 هو عمل مشكوك في صحته. فما بالنا أن هذه النسب في حد ذاتها لم تنشأ عن دراسة محددة معروفة بل آراء وتحليلات شخصية.

وقد يفاجأ البعض بأن هرم التعلم ليس نموذجا واحدا فريدا في تحديد نسب استبقاء المعلومات بناءا على أساليب التواصل والتفاعل ، فمثلا هناك ما يعرف بنموذج أو هرم سوزا Sousa، والذي يشير إلى أن نسبة الاستبقاء أو الاحتفاظ بالمعلومة هي ؛ “المحاضرات” 5%، “القراءة” 10%، “المواد السمع بصرية” 20%، “العروض توضيحة” 30%، “مجموعات المناقشة” 50%، “التجريب والممارسة” 75%. و”تعليم الآخرين/التطبيق العملي للمهارات” 90%، وقد قام المعمل الدولي للتدريب بالتعديل على النسب السابقة وأصدر نموذجه الخاص بنسبمختلفة قليلا تحت أسم هرم معمل التدريب الدولي The NTL Learning Pyramid .

مصطفى جودت ( 2018) : عرض تقديمي بعنوان: التصميم التعليمي لمقررات التعليم عن بعد ، جامعة الملك سعود.

ينتمي النموذجين السابقين إلى عائلة من النماذج التي تربط بين تأثير أنماط التعلم المختلفة على الاحتفاظ بالمعلومات، وفي العادة تتكون تلك الأنماط من الرؤية أو السمع أو القراءة أو العرض أو التحدث أو المناقشة أو الفعل أو التجربة أو الممارسة أو استخدام المعرفة وتعليمها للآخرين. ووفقاً للنماذج، فإن الخبرة المباشرة أو الاستخدام العملي أو تعليم الآخرين هي أكثر طرق التعلم فعالية، مما يؤدي إلى معدلات استبقاء تتراوح بين 80 و100%. وتفترض تلك النماذج أن أقل طرق التعلم فعالية هي القراءة أو الاستماع إلى المحاضرات، مما يؤدي إلى معدلات استبقاء تبلغ 5-10٪ فقط. جميع تلك النماذج تنتمي إلى مسمى “هرم التعلم” هو الاسم الأكثر شيوعًا لهذه النماذج.

وقد درست في مرحلتي الجامعية الأولى ” بعض أهرامات التعلم ” من خلال كتابات موليندا ، والذي يشير في نفس كتابه الذي شرح فيه فكرة هرم التعلم ومخروط الخبرة إلى أن جميع الجهود البحثية التي حاولت تقصي الأساس العلمي الذي بني عليه هذا الهرم باءت بالفشل، فهذا الهرم لا يمكن نسبته لباحث أو عالم بعينه، كما لم تبنى على أساس تجريبي واضح وأنه من الناحية العملية وبناءا على التحليل البعدي لنتائج بحوث ربط الخبرات بالتذكر فإن الوصول إلى نسبة %90-100% شبه مستحيل مهما اختلفت طرق التلقي، مما يؤكد أن هذا الهرم بني على اساس غير تجريبي .

تعدد نماذج أهرامات التعلم واختلاف النسب يؤكد أنها لم تبنى على أساس علمي واضح

ورغم أن عديد من الدراسات التي فندت النسب التي أتي بها هرم التعلم لكن حتى الأن يعد مفهوم هرم التعلم مطروحا وبشدة في الكتابات المختلفة، حيث يتم الاستشهاد بمصطلح أهرامات التعلم على نطاق واسع خارج وسائل النشر الأكاديمية، على الرغم من عدم وذلك رغم الافتقار للأدلة التجريبية الداعمة. ويقدر جوجل “الباحث العلمي” أن هناك 42,700 نتيجة بحث لمصطلح “هرم التعلم” فضلا عن طلبات البحث عن كل نوع من الخبرات على حدى.

مصطفى جودت ( 2018) : عرض تقديمي بعنوان: التصميم التعليمي لمقررات التعليم عن بعد ، جامعة الملك سعود.

الرسم السابق يوضح مشكلة أخرى واجهت المصمم التعليمي عند محاولته للاستفادة من هرم التعلم تتعدى النسب غير المثبتة علميا، وهي كيفية تطبيق هرم التعلم على بيئات التعلم المعاصرة ، حيث أستخدم في التأكيد على أهمية بعض تنوع أنشطة التعلم وأساليبه في بيئات التعليم الإلكتروني، ورغم أني واضع هذا الرسم فإني أرى أنه لا يصلح حاليا في بيئات التعلم المعاصرة والمستقبلية حيث أن فكرة تقسيم أنشطة والتعلم وإلى مستويات نفسها لم تعد مناسبة.

مخروط الخبرة Cone of experience :

كثيرا ما يتم الخلط بين مفهوم مفهوم مخروط الخبرة Cone of Experience ومفهوم هرم التعلم Learning Pyramid السابق الإشارة إليه، والواقع أن “هرم التعلم ” و”مخروط الخبرة” لإدجار ديل هما مفهومان مرتبطان يهدفان إلى توضيح فعالية أنشطة التعلم المختلفة، وإن كان مخروط الخبرة لإدجار ديل قائم على فرضية أشار إليها في كتابه وهي “مقدار المعلومات التي يحتفظ بها الشخص يعتمد على الحواس المشاركة في عملية التعلم“. ويرى البعض أن “هرم التعلم” هو تحريف لنموذج ديل الأصلي ، بينما يرى آخرون العكس حيث أن فكرة تقسيم أنشطة التعلم بشكل هرمي سبقت ديل بسنوات، لكن ثمة أدلة أخرى على أن بعض نماذج هرم التعلم مثل NTL قد أستفادت من تصنيف ديل لخبرات التعلم .

إن مخروط الخبرة الذي وضعه إدجار ديل، والذي تم تقديمه لأول مرة في الأربعينيات من القرن الماضي، هو نموذج مكون من أحد عشر مستوى يصنف تجارب التعلم من الأكثر واقعية (التجارب المباشرة والهادفة في الأسفل) إلى الأكثر تجريدًا (الرموز اللفظية في الأعلى). يعتقد ديل أنه مع انتقال المتعلمين من التجارب المباشرة إلى رموز أكثر تجريدًا، تزداد درجة التجريد، ويصبح المتعلمون متفرجين أكثر سلبية بدلاً من المشاركين النشطين. على ناحية أخرى فإن “هرم التعلم”، المعروف أيضًا باسم “مخروط الاستبقاء”، هو نسخة معدلة – أو محرفة – من نموذج ديل الذي يتضمن نسب استبقاء غير ممكنة واقعيا، وغير مدعومة بأي دليل تجريبي ولم تكن جزءًا من عمل ديل الأصلي. وبرغم النقد الموجه لمفهوم”الهرم التعليمي”، فإن “مخروط الخبرة ” لإدجار ديل ظل لفترة طويلة أداة قيمة للمصممين التعليمين. فهو يساعدهم على دمج المواد والأنشطة السمعية والبصرية المناسبة لخلق تجارب تعليمية غنية لا تُنسى. فقد أكد ديل على أهمية استخدام مجموعة متنوعة من الوسائط، مثل الراديو والتسجيل الصوتي والتلفزيون وتسجيل الفيديو واللوحات والرسومات الخطية والصور المتحركة والصور الفوتوغرافية والنماذج والمعارض والملصقات، لجلب العالم إلى الفصل الدراسي وجعل التعلم أكثر جاذبية. باختصار، في حين أن “هرم التعلم” يمثل تمثيلًا محرفا لعمل ديل، فإن المفهوم الأساسي لـ “مخروط الخبرة” يظل وثيق الصلة بالفكرة الرئيسية، ويشجع المعلمين على تصميم تجارب تعليمية تستفيد من الحواس المتعددة وتعزز المشاركة النشطة، مما يؤدي في النهاية إلى نتائج تعليمية أكثر فعالية وبقاءا.

ومن المفارقات أن إدجار ديل في عمله الأساسي، الأساليب السمعية والبصرية في التدريس Audiovisual Methods in Teaching (الذي نُشر عام 1946، حيث أعلن عن”مخروط الخبرة” لأول مرة) لم يذكر ديل أبدًا أو حتى يلمح إلى أي نسب مئوية تتعلق بكيفية احتفاظ المتعلمين بالمعلومات المقدمة عبر الوسائل التعليمية المختلفة. ويقول الخبراء إن النسب المئوية يبدو أنها تسللت إلى الرسم البياني في السبعينيات، وقد نُسبت خطأً إلى ديل، لذلك يرون أن هرم التعلم هو تحريف لمخروط إدجار ديل كما يظهر من الرسم اللآتي:

Bauman, A. R. (1977). Training of Trainers: Resource Manual. Revised. Superintendent of Documents, U.S. Government Printing Office, Washington, D.C.

لكن ما الذي أدى إلى عدم ملاءمة مخروط إدجار ديل لخبرات التعلم في العصر الحالي ؟
المشكلة الرئيسية في مخروط إدجار ديل أنه ربط الخبرات بالوسائل التعليمية المستخدمة في الأربعينات من القرن الماضية، وقسمها إلى مستويات وهو يخالف مبدئين رئيسيين في بيئات التعلم الحالية وهي التعدد، والتفاعل. فالبرامج التلفيزيونية عند ديل أصبحت فيديو تفاعلي وفيديو ديناميكي، يمكن تكبيره وتصغيره وإبطاؤه أو تسريعه ، والمواد المقروءة أصبحت نصوصا فائقة يمكن الإبحار خلالها والتفاعل معها، والمواد السمعية لم تعد تستخدم منفردة، ولا يمكن حاليا تقسيم الخبرات التعليمية حسب الوسائل المستخدمة نظرا لأن بيئات التعلم المعاصرة هي بيئات متعددة الوسائل قائمة على تحكم المتعلم والتكيف في تقديم المحتوى والتفاعل مع عنصار المحتوى، فلم يعد هناك محاضرة مسموعة فقط أو مقروءة فقط ، أو بيان عملي يقدم بشكل مستقل عن باقي أشكال المحتوى. فالأهمية الحالية لمخروط إدجار ديل هو تركيز اهتمام المصممين التعليميين على تعدد أنشطة التعلم واستخدام مختلفة الحواس والاهتمام بالتفاعلية، مع التأكيد على عدم ملاءمة ترتيب إدجار ديل السابق لأنشطة التعلم ووسائله فالفيديو التعليمي حاليا يمكن للطلاب التفرع منه لشروح فائقة وأنشطة تفاعلية وتكبيره أو تثبيت لقطة ما أو إعادتها وهو مالا يتاح في المحاضرات الحية مثلا

تصنيف بلوم Bloom’s Taxonomy:

لعل ثالث الأهرامات التي آن الأوان لهدمها أو عدم الاعتماد عليها حرفيا هو ما يعرف بتصنيف بلوم Bloom’s Taxonomy كما يطلق عليه أحيانا بهرم بلوم. وقد تم إنشاء التصنيف في عام 1956 من قبل بنيامين بلوم Benjamin Bloom بالتعاون مع كل من ماكس إنجلهارت وإدوارد فورست ووالتر هيل وديفيد كراثول كاستجابة لاتنتقال الاهتمام من المدرسة السلوكية للتعلم التي كانت تركز على ( الحفظ والاستظهار والثواب والعقاب) إلى الاهتمام بنمية مهارات التفكير العليا. لقد قاموا بدمج جوانب الشخصية الثلاث المعرفية والعاطفية والنفس حركية في التصنيف لجعله أكثر شمولاً. ولعل أكبر إنجازات هذا التصنيف أنه مكن أجيال من المعلمين من تنويع أهداف التعلم لتناسب المجالات الثلاث الرئيسية ( المعرفية، والوجدانية، والنفس حركية) ، كما ساعد المعلمين على تصنيف أهدافهم إلى مستويات مختلفة تبع كل مجال من المجالات السابقة، وقد ظل هذا التصنيف مهيمنا على تصميم الأهداف التعليمية نحو نصف قرن من الزمان.

مستويات المجالات المختلفة لتصنيف بلوم للأهداف المعرفية ، والنفس حركية ، والوجدانية : نقلا عن صفحة teachers exams

تصنيف بلوم المعكوس (Revised Bloom’s Taxonomy – RBT):

  • قام به كل من أندرسون وكراثولAnderson and Krathwohl في عام 2001 بعد وفاة بنيامين بلوم في عام 1999.
  • وضعا مكان الأسماء المستخدمة في تصنيف بلوم الأصلي أفعالا تعبر عن كل مستوى من المستويات.
  • قاما بتبديل المستويين الأخيرين، حيث وضعا “التقييم” قبل “الابتنكار / الإنشاء”.
مصطفى جودت ( 2018) : عرض تقديمي بعنوان: التصميم التعليمي لمقررات التعليم عن بعد ، جامعة الملك سعود.

يوجه رون بورجر (Berger,2018) الانتقاد لتصنيف بلوم سواء الأصلي المنقح RBT بقوله، المشكلة هي أن كلا الإصدارين يقدمان رؤية خاطئة للتعلم. التعلم ليس تسلسلاً هرميًا أو عملية خطية. حيث يعطي هذا الرسم انطباعًا خاطئًا بأن هذه العمليات المعرفية منفصلة، ​​وأنه من الممكن أداء إحدى هذه المهارات بشكل منفصل عن المهارات الأخرى. كما أنه يعطي انطباعًا خاطئًا بأن بعض هذه المهارات أكثر صعوبة وأكثر أهمية من غيرها. يمكن أن يشتتنا عن العملية المتكاملة التي تحدث بالفعل في أذهان الطلاب أثناء تعلمهم، ويضيف البعض أن وضع المعرفة في قاعدة الهرم قد يعطي انطباعا خاطئا بأنها أقل أهمية رغم أن قاعدة الهرم هي الأساس الذي يرتكز عليه الهرم كاملا، ولذلك يفضل البعض التعبير عن هذا التصنيف في شكل الهرم المقلوب، وهو ما قام به معمل التدريب الدولي The NTL Learning Pyramid في مقارنته لنموذجه بنموذج بلوم.

يرى البعض أرتباطا بين تصنيف بلوم ومستويات هرم التعلم وأن كليهما أفتقدا للأدلة التجريبية.

إلى جانب ما أشار إليه رون بورجر وعديد من التربويين الآخرين فإن تصنيف بلوم المعرفي على وجه الخصوص وجهت إليه إنتقادات مشابهة لما وجه لهرم التعلم من قبل، حيث أعتبر البعض أن الترتيب يعكس روية شخصية لفريق العمل دون إثباتات تجريبية كافية لهذا الترتيب، بالإضافة إلى ذلك فإن كل مستوى من المهارات المعرفية المدرجة في التصنيف يفترض أن يتضمن مستويات فرعية سواء من حيث التخصيص أو من حيث مستوى الصعوبة والتعقيد، لكن النموذج يتعامل معها كمستوى واحد. فضلا عن أنه لا يمكن تقسيم الموقف التعليمي إلى مستويات منفصلة لا تداخل بينها، فضلا عن اعتباره أن مستوى المعرفة هم الأساس للتعلم ( قاعدة الهرم) وهذا المحتوى في حد ذاته يتكون من مهارت أخرى.

ومن وجهة نظر شخصية أرى أن تصنيف بلوم لا يمثل بشكل واقعي الطريقة التي يحدث بها التعلم فنحن لا نتذكر ثم نفهم ثم نطبق … الخ ، مثلا لو أردنا أن نستخدم الأسلوب الاستكشافي في بيئات التعلم الافتراضية ، أو استخدام موقف تعليمي قائم على المحاكاة أو حتى التعلم المعكوس Flipped Learning ، كذلك في التعلم التجريبي قد نبدأ بالتطبيق ونصل إلى النتائج التي يفترض عليها تذكرها، وبناءا على هذه النتائج نخرج بالتعميميات التي قد نعتمد عليها في إبتكار حلولا جديدة، ولعل هذا ما دعا عديد من أنصار البنائية الاجتماعية Social Constructivism لمهاجمة تصنيف بلوم، حيث تؤكد هذه النظرية على أن المعرفة تُبنى من خلال التفاعل الاجتماعي والتجارب الشخصية، وأن الطلاب يكتسبون المعرفة من خلال التفاعل مع الآخرين في المحيط الاجتماعي، ويبنون معرفتهم من خلال النقاش والتعاون، بينما يركز تصنيف بلوم على الجانب الإدراكي من التعلم وليس الاجتماعي.

وتثير لوري جريسي Lori Gracey قضية أخرى بشأن هرم بلوم في كونه لا يأخذ في الاعتبار الفروق الفردية بين المتعلمين، ودوافعهم ، وقيمهم الفكرية، وتجاربهم السابقة مع المحتوى، واختلافاتهم في المعالجة المعرفية: لم يتم أخذ أي من هذه في الاعتبار. حيث يعتمد التصنيف على الاعتقاد بأن جميع المتعلمين يسيرون في نفس المسار، وهو اعتقاد خاطئ بالتأكيد، فتصنيف بلوم يركز على المجالات المعرفية المجردة وليس على المتعلم . وهو يقدم تعلم يتركز على المعلم أكثر من تعلم يرتكز حول الطالب.

Rohlfs, W., Venner, C., Alouri, M., Kuiphuis, D., & Kneer, R. (2023). HeatQuiz: Combining Flipped-Classroom, Game-Based Learning, and Systematic Problem Analysis in Heat Transfer Education. ResearchGate, 10. doi: 10.1615/IHTC17.70-20

واستنادا إلى أوجه النقد السابقة فقد تعرض هرم بلوم إلى عديد من التعديلات والتحديثات منها الجمع بين المهارات العقلية العليا في مستوى واحد ، واستخدام الهرم المقلوب ، مهام التعلم في حالة التعليم المدمج والتعليم المعكوس إلى مهام تؤدى عن بعد ومهام تؤدى حضوريا في الموقف التعليمي، كذلك ظهر لدينا ما يسمى تصنيف بلوم لبيئات التعليم الرقمية وقد نشأ كاستجابة للتوسع في استخدام بيئات التعليم الرقمية في التعليم الإلكتروني.

في الختام أرجو أن لايفهم هذا الجزء الذي يخص تصنيف بلوم بأني أرى حذفه أو الاستغناء عنه، بالعكس لكن هذا التصنيف في وضعه الحالي غير صالح لطرق التعلم المعاصرة ، وأن التحديثات التي شهدها التصنيف في العشر سنوات الأخيرة لا تكفي حيث ظهر لدينا تصنيف بلوم المعكوس ليلائم التعلم المعكوس ، وتصنيف بلوم الرقمي Bloom’s Digital Taxonomy ليلائم التعليم الإلكتروني بأنواعه، وقد غالى البعض فوضع تصنيف بلوم للتعلم الجوال. إن وما نحتاجه هنا ليس مجرد إعادة صياغة أفعال بلوم ولا قلب الهرم أو إعادة ترتيب المستويات المعرفية بل نحتاج لرؤية جديدة تقوم على أساس تجريبي منضبط يضع لنا نموذجا لصياغة أهداف التعلم بشكل يلائم الطريقة التي يحدث بها التعلم في بيئات التعلم المعاصرة، وبطرق لا تغفل طبيعة المتعلمين وأنشطتهم الفردية والجماعية .

خاتمة الجزء الأول :

لم يكن من السهل أن يتم جمع أغلب المفاهيم والنظريات والنماذج التي لم تعد مستخدمة في التصميم التعليمي أو على الأقل أصبحت في حاجة لتحديث وتطوير ، لذلك فكما ذكرت في مقدمة المقال الحالي فإني أقتصرت على جزء منها في هذا المقال وأعتبرته بمثابة الجزء الأول من سلسلة أنوي كتابتها بإذن الله تعالى تكل بعضها بعضا، وقد أستعرضت في هذا المقال ثلاث نماذج أعتبرتها مجازا بمثابة الأهرامات الثلاث في التصميم التعليمي هي هرم التعلم ومخروط إدجار ديل وتصنيف بلوم فضلا عن مقولة أثرت لوقت طويل على تصميم المحتوى التعليمي هي ( الصورة أفضل من ألف كلمة ) والتي ظهرت نظريات كاملة تضحدها وتؤكد على أهمية تكامل الوسائل وتكاملها وأن المقانة بينها ليست في محلها. وفي الختام أحب أن أوضح أن الجهود السابقة كان لها فضل التركيز على أهمية الأنشطة من حيث التنوع وأهمية توظيف الصور والرسومات وتنوع صياغات الأهداف التعليمية، وأن النقد الموجه لها أو حتى المطالبة بتحديثها ناشئ في الأساس عن التطورات الحاصلة في بيئات التعلم وأساليبه المستخدمة والتي لم تكن متواجدة في حينها، وهذه النظريات والنماذج مثلها مثل أي مكون لها دورة حياة تحتاج بعدها للتحديث أو الاستبدال والإحلال.

المراجع :

Admin. (22, August 2019 ). 7 learning myths debunked – MSU Denver RED. MSU Denver RED. Retrieved from https://red.msudenver.edu/2019/7-learning-myths-debunked

Berger, R. (2024). Here’s What’s Wrong With Bloom’s Taxonomy: A Deeper Learning Perspective (Opinion). Education Week. Retrieved from https://www.edweek.org/teaching-learning/opinion-heres-whats-wrong-with-blooms-taxonomy-a-deeper-learning-perspective/2018/03

Biewener, D. (2023). Has eLearning Killed the “Learning Cone”? Simplilearn. Retrieved from https://www.simplilearn.com/has-e-learning-killed-the-learning-cone-article

Boylan, M. (2018). Excavating the origins of the learning pyramid myths. Cogent Education.

Fadel, C., & Lemke, C. (2008). Multimodal learning through media: What the research says. San Jose, CA: Cisco Systems, 1-24.

Furey, W. (2023). The Stubborn Myth of “Learning Styles”. Education Next. Retrieved from https://www.educationnext.org/stubborn-myth-learning-styles-state-teacher-license-prep-materials-debunked-theory

Lalley, J. P., & Miller, R. H. (2007). The Learning Pyramid: Does It Point Teachers in the Right Direction?. Education, 128(1), 64–79.

Learning Styles Debunked: There is No Evidence Supporting Auditory and Visual Learning, Psychologists Say. (16, Dec, 2009). Retrieved (2024, March 26) from https://www.psychologicalscience.org/news/releases/learning-styles-debunked-there-is-no-evidence-supporting-auditory-and-visual-learning-psychologists-say.html

Letrud, K., & Hernes, S. (2016). The diffusion of the learning pyramid myths in academia: an exploratory study. Journal of Curriculum Studies. Retrieved from https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/00220272.2015.1088063?src=recsys

Loveless, B. (2023). 27 Educational Myths and How to Debunk Them . Education Corner. Retrieved from https://www.educationcorner.com/educational-myths

Martin, G. (2023, December 20). A Picture Is Worth A Thousand Words – Meaning & Origin Of The Phrase. Retrieved from https://www.phrases.org.uk/meanings/a-picture-is-worth-a-thousand-words.html

Masters, K. (2013). Edgar Dale’s Pyramid of learning in medical education: A literature review. Medical Teacher, 34, e1584–e1593.

Molenda, M. (2004). Cone of experience. In A. Kovalchick (Ed.), Education and technology (Vol. A–I, pp. 161–165). 

Morrison, M. (2016, May 28).The Dale Cone of Experience and the NTL Learning Pyramid. Retrieved from https://rapidbi.com/dale-cone-of-experience-misleading-quotes

Rousseau, L. (2021). “Neuromyths” and Multiple Intelligences (MI) Theory: A Comment on Gardner, 2020. Front Psychol, 12. Retrieved (2024, March 26) from https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC8377349

Sousa, D. A. (2006). How the brain learns (3rd ed.). Thousand Oaks, CA: Corwin.

Thomas, K. (2021). New review says ineffective ‘learning styles’ theory persists in education around the world. Swansea University. Retrieved from https://www.swansea.ac.uk/press-office/news-events/news/2021/01/new-review-says-ineffective-learning-styles-theory-persists-in-education-around-the-world-.php

Tomboc, K. (2020). Text vs. Images: Which Content Format is Effective? Simple Infographic Maker Tool by Easelly. Retrieved from https://www.easel.ly/blog/text-vs-images-which-content-format-effective

Zwaagstra, M. (2024, February 20). ‘Learning styles’ myth damaging our education system: op-ed. Retrieved from https://www.fraserinstitute.org/article/learning-styles-myth-damaging-our-education-system

عن د مصطفى جودت

أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك بجامعة الملك سعود ، وجامعة حلوان مدير تطوير المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود
error: Content is protected !!
التخطي إلى شريط الأدوات