مهام المصمم التعليمي وكفاياته

شرح وتعليق : د. مصطفى جودت صالح

يمثل مجال التصميم التعليمي حجر الأساس في تطوير العملية التعليمية الحديثة، حيث يجمع بين المعرفة التربوية والخبرة التقنية لتحويل المحتوى التعليمي إلى تجارب تعلم فعّالة ومؤثرة. وتعد مهام المصمم التعليمي وكفاياته عنصرًا جوهريًا في نجاح أي برنامج تعليمي، سواء كان حضوريًا أو إلكترونيًا، إذ يقع على عاتقه تحليل احتياجات المتعلمين، وتصميم الأنشطة والاستراتيجيات، وتطوير المحتوى التعليمي الرقمي، وضمان توافقه مع أهداف التعلم. ومن ثمّ فإن فهم أدواره الأساسية والمهارات المطلوبة لأدائها يُعد مدخلًا مهمًا لبناء برامج تعليمية عالية الجودة تستجيب لمتطلبات العصر الرقمي وتحقق نتائج تعلم قابلة للقياس.

المقال الحالي ليس تأليف لموضوع جديد بقدر ما هو شرح لنموذج أسترالي شهير في التصميم التعليمي يلخص مهام المصمم التعليمي كما يظهر في الشكل التالي :

https://instructionaldesign.com.au/infographics

يعرض الشكل السابق نموذجًا دائريًا يوضح الأدوار الجوهرية التي يضطلع بها مصممو التعليم (Instructional Designers) داخل منظومة التطوير التعليمي. يتمركز في قلب النموذج دور مصمم التعليم بوصفه المحرك الرئيس للعملية التعليمية، بينما تتوزع حوله مجموعة من المهام المتتابعة التي تمثل دورة تطوير تعليمية شاملة، بدءًا من تحليل الاحتياجات إلى تقييم فعالية البرنامج. يشير هذا التوزيع الدائري إلى أن العملية ليست خطية، بل تفاعلية وديناميكية، ما يعزز فكرة التحسين المستمر والتكامل بين المراحل.

تبدأ العملية بتحديد احتياجات التعلم (Identify learning needs)، وهي خطوة تحليلية تهدف إلى فهم الفجوة بين الوضع القائم والمهارات أو المعارف المراد تحقيقها. يلي ذلك تحديد الأهداف التعليمية (Determine learning objectives)، حيث تُصاغ نواتج التعلم بدقة وقابلية للقياس، بما يضمن توجيه جميع المراحل اللاحقة نحو تحقيق تلك الأهداف. بعد ذلك يقوم مصمم التعليم بتصميم البنية التعليمية وهيكل المحتوى (Design the learning architecture – structure and sequence)، بما يشمل ترتيب الموضوعات والاستراتيجيات ووسائل التفاعل.

تتطور الدورة بعد ذلك نحو بناء أدوات التقييم المتوافقة مع الأهداف (Develop assessment in line with learning objectives)، ثم إنشاء خبرات تعليمية جذابة وفعالة (Create engaging and impactful learning experiences)، وهي المرحلة التي تتجسد فيها الإبداعية والبعد التربوي. يتبع ذلك تطوير المواد التعليمية (Develop learning materials)، بحيث تكون داعمة للأهداف وملائمة لطبيعة المتعلمين وبيئة التعلم. كما تشمل العملية إنشاء أدوات تقييم البرنامج ككل (Create program evaluation tools) التي تُستخدم لاحقًا لقياس الجودة والفاعلية.

وأخيرًا، تتضمن الدورة تنفيذ البرنامج التعليمي (Implement learning program) ثم تقييم فعاليته (Evaluate the effectiveness of the program)، مما يتيح جمع البيانات والتحسين المستمر استنادًا إلى التغذية الراجعة. ومن خلال هذا النموذج يتضح أن مصمم التعليم ليس مجرد منتج لمحتوى تعليمي، بل هو مهندس تربوي يعمل بمنهجية تحليلية وإبداعية، رابطًا بين علم التعلم واحتياجات المؤسسات والمتعلمين، ضمن دورة تطوير متكاملة قابلة للتكرار والتطوير.

في الفقرات التالية سأقوم بالتركيز على بعض الوظائف الواردة في الرسم السابق بمزيد من الشرح والأمثلة

تحليل الاحتياجات التعليمية

يظهر الشكل السابق نموذج تحليل الاحتياجات التعليمية (Learning Needs Analysis – LNA) في القطاعات عالية المخاطر، وهو إطار منهجي يهدف إلى تحديد الفجوات في المهارات والمعارف والسلوكيات قبل تصميم أي برنامج تدريبي. يبدأ النموذج بمرحلة تحديد السياق (Establish Context)، والتي تتضمن فهم الأسباب التي أدت إلى ظهور الحاجة التدريبية، وتوضيح الهدف من التعلم، إضافة إلى تحليل التكلفة الحالية على المؤسسة في حال عدم معالجة الفجوة. في هذه المرحلة يتم طرح أسئلة استراتيجية مثل: لماذا نحتاج هذا التدريب؟ وما أثر غيابه على سلامة العمل أو كفاءته؟ وهي خطوة ضرورية لضمان أن التدريب موجَّه لحل مشكلة حقيقية لها تبعات تنظيمية أو تشغيلية.

تلي ذلك مرحلة مراجعة عناصر KASH، وهو اختصار لـ (Knowledge, Attitudes, Skills, Habits)، حيث يتم تحليل المعارف والمهارات والاتجاهات والعادات المطلوبة للأداء الفعّال في بيئة العمل، مع مقارنة الوضع الحالي بالمستوى المطلوب، مما يساعد في تحديد الفجوات التعليمية بدقة. ثم تأتي مرحلة تقييم القدرات (Assess Capabilities)، التي يتم فيها قياس مستوى العاملين الحالي وفق مؤشرات موضوعية، لتحديد درجة امتلاكهم للمهارات والسلوكيات المطلوبة، وهو ما يمكّن من اتخاذ قرارات مبنية على بيانات وليس افتراضات.

وأخيرًا، ينتقل النموذج إلى مرحلة فهم الموارد (Understand Resources) ثم تصميم الحل التعليمي (Design Solution). في الأولى يتم تحليل بيئة التعلم، وإمكانات المؤسسة، وطبيعة المتعلمين، لضمان أن البرنامج التدريبي قابل للتنفيذ وواقعي. أما في المرحلة الأخيرة، فيتم تصميم رحلة تعلم متكاملة (Learning Journey) تستجيب مباشرة للفجوات المحددة، وتحقق الأهداف في سياق العمل الفعلي. وبهذا يختلف النموذج عن التصميم التعليمي التقليدي، لأنه يبدأ من المشكلة العملية وينتهي بحل تعليمي موجه للأداء، مما يجعله أكثر ملاءمة للقطاعات ذات الحساسية العالية مثل الطيران، الصحة، الطاقة، والصناعات الثقيلة.

صياغة الاهداف التعليمية

https://www.teachthought.com/pedagogy-posts/how-to-write-lesson-objectives-using-blooms-taxonomy

يظهر الشكل السابق الخطوات الأساسية لكتابة هدف تعليمي بطريقة منهجية، حيث يقسّم العملية إلى أربع مراحل متتابعة. تبدأ الخطوة الأولى بصياغة جملة افتتاحية تُعرف باسم stem sentence، وهي العبارة التي تمهّد لبقية الهدف، مثل: “بعد الانتهاء من هذا الدرس سيكون المتعلم قادرًا على…”. ثم تأتي الخطوة الثانية، التي يتم فيها تحديد ناتج التعلم المراد تحقيقه، أي ما الذي ينبغي أن يعرفه أو يؤديه المتعلم في نهاية النشاط أو المقرر.

في الخطوة الثالثة، يُستعان بعجلة بلوم (Bloom’s Wheel) لاختيار الفعل المناسب وفق مستوى التفكير المطلوب، سواء كان تذكرًا، فهمًا، تطبيقًا، تحليلًا، تقييمًا أو إبداعًا، مما يضمن ارتباط الهدف بمستوى معرفي دقيق. وأخيرًا، تتكامل الجملة الافتتاحية مع الفعل وناتج التعلم في الخطوة الرابعة لتشكيل هدف مكتمل واضح وقابل للقياس. ويُختتم الشكل بمثال تطبيقي على هدف تعلم مكتوب بشكل صحيح، ما يعزز فهم الطريقة ويوضح تطبيقها العملي.

https://zaidlearn.blogspot.com/2009/07/use-blooms-taxonomy-wheel-for-writing.html

تُعد عجلة بلوم (Bloom’s Wheel) أداة بصرية تعليمية تُستخدم لمساعدة المعلمين والمصممين التعليميين على صياغة أهداف تعلم قابلة للقياس وفق تصنيف بلوم للأهداف المعرفية. تمثل العجلة خريطة تربط بين مستويات التفكير الستة في تصنيف بلوم وبين مجموعة من الأفعال المناسبة لكل مستوى، مما يسهل اختيار الفعل الدقيق الذي يعكس مهارة العقل المطلوبة، سواء كانت بسيطة مثل “التذكر” أو معقدة مثل “الابتكار”. وتُعد العجلة تطويرًا عمليًا لتصنيف بلوم، لأنها تُحوّل النظرية إلى أداة تطبيقية مباشرة.

تتكون العجلة من ستة مستويات تفكير مرتبة تصاعديًا من الأدنى إلى الأعلى: التذكر (Remember)، الفهم (Understand)، التطبيق (Apply)، التحليل (Analyze)، التقييم (Evaluate)، والابتكار (Create). كل مستوى يحتوي على مجموعة من الأفعال المرتبطة به مثل: يعرّف، يميّز، يقارن، يحلل، يقوّم، يصمم… إلخ. هذه الأفعال ليست مجرد كلمات لغوية، بل مؤشرات قياسية تُستخدم لتحديد طبيعة الأداء المطلوب من المتعلم، وبالتالي فهي تساعد على صياغة أهداف دقيقة ومناسبة لمستوى التعلم المراد.

تكمن أهمية عجلة بلوم في أنها تربط بين عملية التعلم والقياس؛ فاختيار الفعل الصحيح يعني أن المعلم يستطيع لاحقًا تصميم أنشطة وتقويمات تقيس هذا الفعل بدقة. على سبيل المثال، إذا كان الهدف يحتوي فعلًا مثل “يحلل”، فلن يكون التقويم عبر سؤال تذكّر، بل عبر مهمة تحليلية تتطلب تفكيك المعلومات. وهكذا تضمن العجلة الاتساق بين الأهداف والأنشطة والتقويم في العملية التعليمية.

كما تُستخدم عجلة بلوم في مجالات أوسع من التعليم المدرسي أو الجامعي، مثل التدريب المهني، وتصميم مقررات التعلم الإلكتروني، وتصميم الحقائب التدريبية، لأنها تساعد في الانتقال من التعليم السطحي إلى التعلم القائم على التفكير والتطبيق. وبفضل طبيعتها البصريّة والعملية، أصبحت العجلة مرجعًا أساسيًا في ورش تصميم المقررات، وركنًا مهمًا في أي عملية تطوير تعليمي قائمة على معايير الجودة وتحقيق نواتج تعلم واضحة.

كفايات المصمم التعليمي

مهارات وصفات التصميم التعليمي (ID Skills and Qualities)
https://instructionaldesign.com.au/what-is-instructional-design/what-do-instructional-designers-do

يوضح الشكل السابق الكفاءات الأساسية السبع التي لا غنى عنها للمصمم التعليمي الناجح، مُرتبة في شكل هيكل دائري يضع هذه المهارات في صميم دور المصمم. وعلى هذا يُمثل النموذج إطارًا شاملاً يحدد الجوانب المتعددة التي يجب أن يمتلكها المصمم التعليمي لتحقيق التميز في عمله. تتوزع هذه الكفاءات إلى فئتين رئيسيتين: المهارات الشخصية (Soft Skills) والمهارات التقنية والمنهجية (Hard Skills). من الجوانب الأساسية التي يُركز عليها النموذج هي “التركيز على المُتعلِّم” (Learner-focused)، حيث يُشدد على ضرورة وضع المُتعلِّم في صميم كافة القرارات والتصاميم التعليمية لضمان مُلاءمة المحتوى وفعالية العملية التعليمية. هذا التوجه هو الركيزة التي تُبنى عليها جميع الأنشطة الأخرى.

بالإضافة إلى التركيز على المُتعلِّم، يبرز النموذج أهمية “الإبداع” (Creativity)، الذي يُعد محركًا لخلق تجارب تعليمية فريدة ومُؤثرة وأنشطة جذابة ومتنوعة. يتطلب التصميم التعليمي الفعّال تجاوز الأساليب التقليدية وابتكار حلول تعليمية تتناسب مع الاحتياجات المتغيرة. كما يولي النموذج اهتمامًا بالغًا لـ “مهارات التواصل” (Communication skills)، مؤكدًا دورها الحيوي في التفاعل الناجح مع العملاء وأصحاب المصلحة، وتبادل المعلومات القيمة التي تُثري وتدعم التجربة التعليمية، ما يضمن توافق المُخرجات مع الأهداف المرجوة.

من الناحية المنهجية والجودة، يُسلط النموذج الضوء على أهمية “إدارة المشاريع” (Project management) لضمان كفاءة سير العمل. يتطلب ذلك إدارة الوقت بذكاء والمحافظة على الالتزام بالمواعيد النهائية لتسليم المُخرجات. وبشكل موازٍ، تُعد “الجودة” (Quality) من الصفات المحورية، حيث تستلزم الحفاظ على معايير عالية لضمان أن يكون التعلّم جاذبًا، وفعّالًا، وكفؤًا، ومُحققًا للأهداف المرجوة منه. هذه الجوانب المنهجية تُرسخ الانضباط وتضمن تحقيق أقصى قيمة من الجهد المبذول.

أخيرًا، يختتم النموذج بـ “المرونة التعلُّمية” (Learning agility)، وهي صفة حاسمة في بيئة التعلّم دائمة التطور. تتطلب هذه المرونة الاستعداد الدائم للبحث عن أحدث الاتجاهات، واستكشاف طرق جديدة للعمل، وتكييف المعرفة والمهارات الشخصية باستمرار. هذه الكفاءة تُمكن المصمم التعليمي من البقاء في طليعة الابتكار والتكيف مع التقنيات والمناهج التعليمية المستجدة، ما يُعد ضمانة لاستدامة التميز في مجال التصميم التعليمي.

بناء هيكل البرنامج ومسارات التعلم ( هندسة التعلم )

يهدف دور مصمم التعليم الأساسي إلى إنشاء البنية التعليمية (Learning Architecture)، وهي المخطط الهيكلي الذي يحدد كيفية تدفق عملية التعلّم بأكملها. تُعنى هذه البنية بتنظيم المحتوى التعليمي في هيكل متسلسل (structure and sequence) منطقي ومُحكم، يضمن انتقال المُتعلّم بسلاسة وفعالية من نقطة معرفية إلى أخرى. ويشمل ذلك تحديد الموضوعات الرئيسية والفرعية، وترتيبها ترتيبًا تسلسليًا (من البسيط إلى المُعقد أو من العام إلى الخاص)، وربطها ببعضها البعض لضمان بناء المعرفة بشكل تراكمي ومتكامل، مما يُسهل الاستيعاب ويُعزز الاحتفاظ بالمعلومات.

تجاوز تصميم هذه البنية مجرد ترتيب المحتوى ليشمل الجوانب الديناميكية للتعلّم. حيث يقوم مصمم التعليم باختيار وتحديد الاستراتيجيات التعليمية المناسبة لكل جزء من المحتوى (مثل المحاضرات، دراسات الحالة، التعلّم القائم على المشاريع، أو التعلّم المُدمج). كما يحدد وسائل التفاعل اللازمة لإشراك المُتعلّمين بشكل نشط، سواء كانت تفاعلات بين المُتعلّم والمحتوى (مثل الاختبارات والتمارين)، أو تفاعلات بين المُتعلّمين أنفسهم (مثل المناقشات الجماعية)، أو تفاعلات مع المُعلم/المُيسر. هذه العناصر الثلاثة – التسلسل المنطقي للموضوعات، الاستراتيجيات المُتبعة، ووسائل التفاعل – تُشكل معًا العمود الفقري للتجربة التعليمية، مُحولةً المحتوى الخام إلى مسار تعليمي مُحفز ومُقنن يُؤدي إلى تحقيق الأهداف التعليمية بكفاءة عالية.

https://www.researchgate.net/figure/e-Learning-architecture_fig2_237777040

وتُعدّ هندسة التعلّم (Learning Architectures) أساسًا استراتيجيًا لا غنى عنه في مجال التدريب والتطوير، حيث تمثل الفارق الجوهري بين برامج التدريب العشوائية وتلك التي تُحدث تحولًا حقيقيًا. في بيئة الأعمال سريعة التغير، لم يعد أسلوب “تجميع البرامج التدريبية” كافيًا. تُقدم هذه الهندسة مخططًا واضحًا وخطة عمل محكمة بدلاً من التشتت والعمل غير المُنظم، ما يضمن توجيه جهود التدريب نحو أهداف محددة ومُؤثرة، ويُحول التدريب من مجرد إجراء شكلي إلى محرك استراتيجي لنمو المؤسسة.

يتم بناء هياكل التعلّم الفعالة عبر منهجية مُنظمة تبدأ بـ الاستكشاف المُتعمق (Deep Dive Discovery). لا يكتفي المصممون بالنظر السطحي، بل يغوصون في ثقافة المؤسسة، وتحدياتها، والأهداف الاستراتيجية المراد تحقيقها من التدريب. هذا الفهم العميق يُمكنهم من تصميم كل عنصر في الهيكل بتركيز شديد على النتائج المرجوة (Outcome-driven)، لضمان أن كل قطعة تُساهم في تحقيق أهداف تعليمية قابلة للقياس.

وللحفاظ على حيوية وفعالية البرنامج، يتم المزج بين الاستراتيجيات والوسائل التعليمية المختلفة (Mix it up)، حيث يتم دمج التعلم الإلكتروني وورش العمل والتدريب العملي في بيئة العمل. ومن الأهمية بمكان دمج نقاط التحقق التعلّمية (Build in learning checks) من خلال التقييمات المنتظمة وحلقات التغذية الراجعة، لضمان بقاء المُتعلّمين على المسار الصحيح وتقديم البرنامج للنتائج المتوقعة. كما تُعزز هذه العملية التناغم بين أصحاب المصلحة عبر إشراك جميع الأطراف المعنية لضمان تلبية الهيكل لاحتياجات الجميع.

بمجرد الانتهاء من صياغة هيكل التعلّم، يُصبح هذا المخطط بمثابة العمود الفقري (Backbone) لعملية تصميم البرنامج بأكملها. تُستخدم الهندسة كنقطة انطلاق لتصميم تجارب تعلّم مُفصلة، وتطوير محتوى جاذب، وإنشاء أدوات تقييم تقيس الأداء الفعلي، وإنتاج مواد تُجسد الرؤية التعليمية. وبهذا، تُصبح هندسة التعلّم الأداة السرية للمتخصصين الجادين في إحداث تأثير، حيث تضمن أن تكون برامجهم مُصممة بعناية، ومُنظمة جيدًا، ومُركزة بشكل دقيق على تحقيق النتائج الحقيقية التي تخدم خطط المؤسسة.

بناء التقييمات في ضوء أهداف التعلم

في المقال من Eberly Center بجامعة Carnegie Mellon University تحت عنوان «لماذا ينبغي أن تكون الأهداف التعليمية، واستراتيجيات التدريس، والتقييمات متوافقة؟»، يُوضّح المقال أن هناك ثلاث مكونات رئيسية يجب أن تكون مُنسجمة في تصميم المقرّر أو الوحدة التعليمية: أهداف التعلم (Learning Objectives)، استراتيجيات التدريس (Instructional Strategies)، والتقييمات (Assessments). إن هذه المكونات تشكّل مثلثًا تربويًا؛ فإذا تغيّرت أي واحدة دون تعديل البقية فإن الاتساق يتزعزع ويقلّ أثر التعلم. فمثلاً، إذا كان هدفك يُركّز على تطبيق مهارة تحليلية، لكن التقييم يكتفي بتذكر معلومات، سينشأ عدم توافق يُضعف فعالية التعليم.

فيما يخص بناء التقييمات ذات الصلة بأهداف التعلم، يُشير المقال إلى أنه ينبغي أولًا صياغة الأهداف بوضوح: «ما الذي أُريد أن يعرفه أو يفعله الطالب عند نهاية المقرر؟». بعد ذلك يُطرح سؤال جوهري: «ما نوع المهمة أو النشاط الذي سيُظهر ما إن كان الطالب قد حقّق هذا الهدف؟» وهذه مهمة التقييم. ثم أخيرًا نأتي إلى «ما هي الأنشطة التي سأُوفّرها للطلاب حتى يكونوا مستعدين لهذا التقييم؟» أي استراتيجيات التدريس. بهذا التتابع – هدف ➜ تقييم ➜ نشاط تدريس – يتم ضمان الاتساق.

أمثلة على ربط أساليب التقييم والأنشطة بأهداف التعلم

من المهم أيضًا أن تكون التقييمات معدّة لتوفير فرص للطلاب للتدريب وليس فقط للاختبار النهائي. في حال لم تكن الأنشطة التمهيدية أو التدريسية تهيّئ الطلاب لما سيُقيَّم، فإنهم سيكونون معرضين للإحباط أو الفشل بالرغم من تحضيرهم الجيد في إطار ما تعلموه. وبذلك، يصبح التقييم جزءًا من عملية التعلم وليس مجرد نهاية له.

بناء خبرات التعلم

يُعد تصميم تجارب التعلم (Learning Experience Design – LxD) مجالًا حديثًا يجمع بين مبادئ التصميم التعليمي، وعلوم التعلم، وتجربة المستخدم (UX)، بهدف إنشاء تجارب تعلم شمولية تركز على المتعلم بوصفه محور العملية. بخلاف النماذج التقليدية التي تركّز على المحتوى أو المعلم، يعتمد LxD على فهم عميق لاحتياجات المتعلم، وسياق التعلم، ودوافعه، والتحديات التي قد يواجهها، لضمان تقديم تجربة تعليمية ذات معنى وفاعلية. وهو بذلك يمزج بين الأساس العلمي للتعلم، ومبادئ التصميم الإبداعي، ليخلق تعلمًا فعالًا، جذابًا، وسهل الاستخدام.

كما يركز تصميم تجارب التعلم على بناء رحلة تعليمية متكاملة، لا تقتصر على تصميم الدروس أو الأنشطة فحسب، بل تمتد لتشمل العاطفة، الدافعية، التفاعل، والارتباط بالخبرة الواقعية للمتعلم. فالتعلم من منظور LxD ليس عملية نقل معلومات، بل تجربة يعيشها المتعلم، ويتفاعل معها، ويستخلص منها قيمة يمكن تطبيقها في حياته أو عمله. ولهذا يتم توظيف عناصر مثل السرد القصصي، التلعيب (Gamification)، التعلم التجريبي، والتغذية الراجعة الفورية، من أجل رفع مستوى المشاركة والانغماس.

من الركائز الأساسية في LxD اعتماد منهجية التصميم المتمركزة حول المستخدم (Human-Centered Design)، والتي تبدأ بمرحلة البحث والتعرف إلى المتعلمين عبر أدوات مثل المقابلات، البطاقات الشخصية (Personas)، وتحليل الاحتياجات، ثم الانتقال إلى تصميم النماذج الأولية، التجريب، والتحسين المستمر. كما يعتمد المجال على مبادئ UX لضمان أن بيئات التعلم الرقمية — سواء كانت منصات، تطبيقات، أو محاكاة — تتسم بالسهولة، الوضوح، والتنقل السلس، مما يقلل الجهد المعرفي غير الضروري على المتعلم.

ويمثل LxD نقلة نوعية عن التصميم التعليمي الكلاسيكي، إذ لا ينظر للتعلم كخطة دراسية أو محتوى منظم فقط، بل كتجربة كاملة ممتدة عبر الزمن، متعددة الوسائط، ومرتبطة بالوجدان والعقل معًا. لذلك أصبح LxD مطلبًا أساسيًا في تصميم الدورات الإلكترونية، منصات التعليم الذكي، التدريب المؤسسي، وتجارب التعلم المعززة بالذكاء الاصطناعي، لأنه يقدم رؤية تربط بين التعلم الفعّال، التصميم الجيد، والتجربة الإنسانية العميقة.

مهارات تطوير المحتوى الرقمي وتقييمه

أبدأ بسؤال غالبا ما أطرحه في أي دورة للتصميم التعليمي وهو؛ هل كل مصمم تعليمي يجب أن يكون مطورا للمحتوى الرقمي؟
الواقع لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إجابة قاطعة لأني ببساطة لو استخدم أحد النماذج المنظومية أو نماذج التطوير الجماعي للمقررات فالأفضل أن يكون المصمم التعليمي متخصصا في جزئية التصميم ولا يجب أن يكون ماهرا في التعامل مع برامج التطوير. ولكن لو استخدم المصمم التعليمي التصميم التعليمي السريع على سبيل المقال لكان من الواجب عليه معرفة كيف يطور محتواه بنفسه، هذه هي الإجابة الحاسمة وهي حسب النموذج المتبع في التطوير. فعلى المستوى الشخصي أفضل التخصص مع الإحاطة بالحد الأدنى من استخدام ادوات التطوير الأساسية مثلا يجب أن أعرف نوع أنظمة التأليف وتطوير المحتوى المستخدمة وإمكاناتها حتى لا أطلب – كمصمم تعليمي – من مطور المحتوى ما يفوق إمكانات البرنامج نفسه . كذلك على مستوى مطور المحتوى يجب أن يتخصص في برنامج أساسي وليمكن نظام تأليف محدد مع إحاطة ببعض الأدوات الأساسية مثل برامج تصميم الجرافيك وتحرير الصوت على المستوى الادنى حتى لا يكن عمله معتمد تماما على عدد كبير من الأفراد مما يؤدي إلى إبطاء تقدمه في العمل، وهذا لا يعنى الاستغناء عن المتخصصين في أشكال محددة من المواد التعليمية كالرسومات المتحركة مثلا بل يجب أن يسند إليهم مالا يمكن لغيرهم عمله من أعمال.

ولو نظرنا إلى مهارات المحتوى الرقمي بشكل عام بغض النظر غن من يقوم بالمهمة فإنه تتطلب عملية تطوير المحتوى الرقمي لمقررات التعليم الإلكتروني مجموعة متكاملة من المهارات التقنية والتربوية، المهارات التربوية سبق الإشارة إليها في المقال الحالي والتي تظهر في شكل السيناريو أو لوحة إخراج البرنامج StoryBoard، إلى جانب ذلك ، يحتاج مطور المحتوى الرقمي إلى إتقان أدوات وبرمجيات التأليف (Authoring Tools) مثل Articulate Storyline، Adobe Captivate، أو iSpring، إضافة إلى التعامل مع معايير مثل SCORM وxAPI لضمان توافق المحتوى مع أنظمة إدارة التعلم (LMS). كما تتطلب العملية إلمامًا بأساسيات التصميم الجرافيكي، تحرير الصوت والفيديو، وإدارة حقوق الملكية الفكرية للمحتوى والوسائط، وهو ما يجعل المطور قادرًا على إنتاج تجربة تعلم احترافية من الناحيتين البصرية والوظيفية.

وأخيرًا، ينبغي أن يمتلك مطور المحتوى مهارات الاختبار والجودة، بحيث يتمكن من مراجعة المواد الرقمية قبل نشرها، والتأكد من خلوها من الأخطاء التقنية أو التعليمية، وأنها قابلة للاستخدام عبر مختلف الأجهزة. كذلك يتطلب الأمر القدرة على جمع وتحليل ملاحظات المتعلمين والمعلمين لتحسين المحتوى بشكل مستمر، وربطه ببيانات التحليلات التعليمية (Learning Analytics). وبذلك يصبح مطور المحتوى ليس مجرد منتج مواد، بل شريكًا في تصميم تجربة تعلم رقمية فعّالة ومستدامة

من المؤكد أن عملية تقييم المحتوى عملية هامة وحاسمة للحكم على صلاحية التصميم والتطوير معا ، لذلك فهذه العملية تتم على ثلاث مستويات تقييم إثناء التصميم والتطوير وتقييم بعد الإنتاج على النسخة المبدئية ويكون بأشكال عدة كتقييم الخبراء وتقييم الأقران ، ثم تقييم بيتا أو المرحلة باء، وهو تقييم المستخدمين بعد مدة من استخدام البرنامج ويتم في العادة بعد فصل دراسي كامل في الغالب بالنسبة للمقررات الإلكترونية.

وبالتالي فإن مرحلة تقييم ومراجعة المحتوى التعليمي الرقمي مرحلة أساسية ومستمرة مع مراحل مشروع التطوير ككل، لأنها تضمن جودة المحتوى من الناحية التربوية والتقنية والتصميمية قبل نشره للمتعلمين. وتبدأ غالبا عملية التقييم عادة بتحليل مدى توافق المحتوى مع الأهداف التعليمية؛ أي فحص ما إذا كانت الأنشطة، الوسائط، والمواد الرقمية تدعم تحقيق مخرجات التعلم المستهدفة، وهل ترتبط بالتقويمات بشكل منطقي ومتسق. كما يتم التأكد من صحة المعلومات، حداثتها، وملاءمتها لمستوى الجمهور المستهدف، إلى جانب مراعاة المعايير التربوية مثل التسلسل المنطقي، وضوح التوجيهات، وهو ما يعرف بمرحلة فحص المحتوى.

جزء من نموذج فحص المحتوى المستخدم بوحدة المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود

يتضمن التقييم أيضًا مراجعة الجانب التقني والتفاعلي للمحتوى، مثل توافقه مع بيئات التعلم الإلكتروني (LMS)، عمله على مختلف الأجهزة والمتصفحات، سرعة التحميل، جودة الوسائط (صوت، صورة، فيديو)، وخلوه من الأخطاء البرمجية. كما يتم التأكد من التزامه بمعايير مثل SCORM أو xAPI في حال كان مخصصًا للتتبع داخل المنصات التعليمية. يشمل ذلك أيضًا ضمان سهولة الاستخدام (Usability)، ووضوح واجهات التفاعل، والتنقل المنطقي بين الشاشات.

أما المراجعة النهائية فتتضمن التحقق من عناصر جودة التصميم التعليمي مثل مستوى التفاعل، نوع التغذية الراجعة المقدمة للمتعلمين، مدى توظيف استراتيجيات التحفيز، والقدرة على مراعاة الفروق الفردية. في بعض الحالات، يُستخدم نموذج معايير جاهز مثل: Quality Matters، أو معايير E-Learning Guild، أو Rubrics محلية معتمدة داخل المؤسسات. وفي النهاية، لا تُعدّ المراجعة خطوة واحدة، بل عملية مستمرة تعتمد على جمع بيانات الاستخدام الفعلي من المتعلمين، تحليلها، ثم تحسين المحتوى بشكل تكراري لرفع فعاليته التعليمية.

لكن تقييم المقررات الإلكترونية لا يتوقف فقط عند قوائم الفحص وتطبيق المعايير كما أشرنا سابقا ، فهناك تقييم فاعلية البرنامج التعليمي وكفاءته. فتقييم فاعلية البرنامج وكفاءته يُعدّ جزءًا أساسيًا من منهجيات ضمان الجودة في التعليم والتدريب، سواء كان البرنامج تعليميًا، تدريبيًا، أو تقنيًا. ويُقصد بـ فاعلية البرنامج (Effectiveness) مدى قدرته على تحقيق الأهداف المحددة مسبقًا، أي ما إذا كان المتعلمون أو المستفيدون قد اكتسبوا بالفعل المعارف أو المهارات أو الاتجاهات المستهدفة. أما كفاءة البرنامج (Efficiency) فتركّز على العلاقة بين الموارد المستخدمة والنتائج المحققة، أي مدى تحقيق البرنامج لمخرجاته بأقل وقت، جهد، وتكلفة ممكنة دون الإخلال بالجودة.

عادةً ما يُقاس مستوى الفاعلية من خلال أدوات مثل اختبارات قبلية وبعدية، تحليلات الأداء، استبانات رضا المتعلمين، أو تتبع نواتج التعلم القابلة للقياس. وقد يتم الاعتماد على نماذج تقييم معتمدة مثل نموذج كيركباتريك (Kirkpatrick Model) الذي يقيس الاستفادة على أربعة مستويات تبدأ بالرضا وتنتهي بالأثر الحقيقي في بيئة العمل أو المجتمع. في المقابل، تتطلب دراسة الكفاءة تحليلًا إداريًا وماليًا يشمل مقارنة التكاليف بالنتائج، وتقييم استثمار الموارد البشرية والتقنية، وربما قياس العائد على الاستثمار (ROI) في البرامج التدريبية أو الإلكترونية.

ومن أهم ملامح التقييم متكامل الأبعاد أنه لا يقتصر على نتائج المتعلمين فقط، بل يشمل تقييم تصميم البرنامج، جودة التنفيذ، الدعم المتاح للمتعلمين، ودرجة الاستدامة. وغالبًا ما تدمج المؤسسات بين تقييم فاعلية وكفاءة البرنامج في دورة مستمرة للتحسين المستند إلى البيانات، بحيث يتم استخدام نتائج التقييم لتطوير المحتوى، تحسين أساليب التدريس، رفع مستوى الدعم الفني، أو إعادة توزيع الميزانيات. وهكذا يصبح التقييم ليس مجرد مرحلة ختامية، بل مكوّنًا استراتيجيًا في التطوير المؤسسي وضمان جودة البرامج.

عن د مصطفى جودت

أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك بجامعة الملك سعود ، وجامعة حلوان مدير تطوير المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود
error: Content is protected !!