مراجعة: د. مصطفى جودت صالح
صدر في 5يونيو 2025 عدد خاص من مجلة البحوث التربوية The Journal of Educational Research المعروفة، في المجلد 118، العدد 6، ونشر التقرير موضوع المراجعة في الصفحات 531-534من النسخة الورقية. وتُعد المجلة من المنابر الأكاديمية الرصينة التي تصدر عن مجموعة تايلور وفرانسيس (Routledge, Taylor & Francis Group) ، مما يضفي ثقلاً ومصداقية على الأبحاث المنشورة فيها.
وتكمن اأهمية هذا العدد الخاص في كونه يقدم خارطة طريق (roadmap) للبحوث التي تتناول الممارسات القائمة على الأدلة لدمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم ما قبل الجامعي. يهدف العدد إلى تأطير تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي كـ “ابتكار تعليمي” (educational innovation) واستكشاف الفرص والقيود التي تكتنف اعتناقه كأداة للتعلم والتعليم
التقرير موضوع المراجعة
تُقدم هذه المراجعة الأكاديمية تحليلاً نقدياً في شكل مقالة بحثية أو تقرير كافتتاحية للعدد الخاص من مجلة البحوث التربوية (The Journal of Educational Research)، والتي تحمل عنوان “استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم من الروضة حتى الصف الثاني عشر: مقدمة للعدد الخاص من مجلة البحوث التربوية”.
فكرة العمل : تتبلور في تقديم خارطة طريق وتوليف (roadmap and synthesis) لمجموعة من التقارير البحثية التي جمعها المؤلف خصيصاً لهذا العدد. الهدف الرئيس هو توجيه القراء لاستكشاف محتويات العدد الخاص ، من خلال تحليل ممارسات دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي (GAI) القائمة على الأدلة في البيئات التعليمية للمرحلة ما قبل الجامعية (K-12). كما تُصنَّف المقالة تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي كـ ابتكار تعليمي ، مستكشفة الفرص والقيود التي تصاحب اعتناقه كأداة للتعلم والتدريس، وبالتالي فهذا العمل هو من نوع دراسات الدراسات Study of studies، وقد صيغ كتقرير بحثي دون الخوض في الجوانب الكمية والتحليلية التي تتميز بها هذه النوعية من الدراسات.
يشير مصطلح Study of Studies إلى منهجية بحثية تهدف إلى تحليل وتفسير مجموعة من الدراسات السابقة حول موضوع واحد، بغرض استخلاص أنماط أو اتجاهات أو استنتاجات عامة تدعم اتخاذ قرارات مبنية على الأدلة. يشبه هذا النهج ما يُعرف بـ الدراسات الميتا-تحليلية أو المراجعات المنهجية، لكنه قد يكون أوسع من حيث التركيز على تقييم جودة الدراسات، وتحديد الثغرات البحثية، وفحص مدى اتساق النتائج بين مصادر متعددة. ويُستخدم هذا النوع من الدراسات في مجالات مثل التعليم، الطب، والعلوم الاجتماعية، لتجميع المعرفة المتناثرة وتحويلها إلى رؤية علمية متماسكة تساعد في تطوير النظريات أو تحسين الممارسات التطبيقية القائمة على البراهين
محرر العمل هو الدكتور لويس س. ناديلسون (Louis S. Nadelson) ، وهو أكاديمي متخصص يعمل في قسم دراسات القيادة بكلية التربية في جامعة سنترال أركنساس بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي يمكن اعتباره كمحرر رئيس للعدد وكاتب لهذه الدراسة.
الأهمية الأكاديمية للعمل
- إطارا مرجعيا للموضوع: تُقدم المقالة إطاراً مرجعياً لوضع الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يُعد إضافة حديثة نسبياً للجمهور العام مقارنة بالذكاء الاصطناعي التنبؤي (PAI) ، في سياق الابتكار التعليمي.
- الممراسات القائمة على الأدلة: تكمن أهميتها في أنها لا تكتفي بتقديم الأوراق البحثية، بل تسعى إلى تقديم الممارسات القائمة على الأدلة (evidence-based practices) ، مما يساعد الباحثين والممارسين على فهم الممارسات المثبتة في دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي.
- البعد العالمي: تُشير المقالة إلى أن التقارير المجمعة تعكس مدى التنوع في السياقات والمواقع، ما يمثل شهادة على الاستخدام العالمي للذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم K-12.
- التحول المستقبلي: تؤكد المقالة أن الأبحاث تُظهر كيف يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يُحدث تحولاً في التدريس والتعلم بما يتوافق مع أنشطة مجتمعات القرن الحادي والعشرين ، وهي نقطة محورية في الخطط البحثية العالمية الحالية.
الممارسات القائمة على الأدلة (Evidence-Based Practices) هي الأساليب أو الاستراتيجيات التعليمية أو المهنية التي يتم تبنّيها وتنفيذها اعتمادًا على نتائج بحث علمي موثوق، وليس على الحدس أو الخبرة الفردية فقط. تقوم هذه الممارسات على الدمج بين أفضل الأدلة البحثية المتاحة، والخبرة المهنية للممارس، واحتياجات وظروف المتعلمين أو المستفيدين. ويُعد هذا النهج أساسًا لاتخاذ قرارات تربوية أو علاجية أو إدارية فعّالة، لأنه يضمن الاعتماد على ما ثبت نجاحه فعليًا في بيئات مشابهة، بدلاً من التجريب غير المدروس أو الحلول العامة. وتُستخدم الممارسات القائمة على الأدلة بشكل واسع في مجالات مثل التعليم، الطب، علم النفس، والخدمات الاجتماعية، بهدف تحسين جودة النتائج، وتقليل المخاطر، ورفع كفاءة الموارد المستثمرة في العملية التعليمية أو العلاجية.
المنهجية المتبعة في العمل
بما أن لعمل هو وصف لدراسة حول دراسات منشورة تاليا في نفس العدد، فإن “إجراءاته” البحثية لم تتضمن جمع بيانات أولية، بل تركزت على منهجية التقييم والتنظيم المنهجي (Curation and Organization) للمواد:
تشير منهجية Curation and Organization في البحوث والدراسات إلى عملية الانتقاء المنهجي للمصادر والمعلومات العلمية، ثم تنظيمها وترتيبها بطريقة منطقية ومترابطة تخدم هدفًا بحثيًا محددًا. يقوم الباحث في هذه المنهجية بدور “المنسّق العلمي” الذي لا يكتفي بجمع البيانات، بل يختارها وفق معايير جودة وموثوقية، ويعيد ترتيبها وتحليلها بما يسمح ببناء معرفة متماسكة أو إطار نظري أو تحليلي جديد. وتُستخدم هذه المنهجية بكثرة في مراجعات الأدبيات، والخرائط المعرفية، والدراسات الاستطلاعية، وتطوير قواعد المعرفة العلمية.
تركز هذه المنهجية على الوعي النقدي بالمصادر، وليس مجرد جمعها، فالهدف هو إبراز السياقات، واكتشاف العلاقات بين الدراسات، وتحديد الفجوات البحثية، وتسهيل إعادة استخدام المعرفة في أبحاث جديدة. وغالبًا ما تعتمد على أدوات رقمية حديثة مثل أنظمة إدارة المراجع (Mendeley, Zotero) أو منصات تنظيم المعلومات (Notion, Obsidian) مما يجعلها جزءًا من ممارسات البحث العلمي المعاصر المعتمدة على المعرفة المفتوحة والأدلة الموثقة.
- جمع التقارير (Data Collection): قام ناديلسون بجمع “مجموعة من تقارير البحث حول التدريس والتعلم باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي” ، مع التركيز على التقارير التجريبية المتنوعة (diversity of empirical research reports) التي تفصّل كيفية استخدام الطلاب والمعلمين للذكاء الاصطناعي التوليدي لتعزيز فعالية التعلم والتدريس.
- التنظيم السياقي (Contextual Organization): تمثلت الخطوة الإجرائية الأهم في تنظيم المقالات حسب السياق التعليمي (organized the articles by educational context). هذا التنظيم (الذي شمل المعلمين، الإداريين، التعليم الابتدائي، التعليم الإعدادي، التعليم الثانوي، ودمج المناهج) يهدف إلى تزويد القراء بسياق إضافي وتعزيز إمكانية ترجمة البحث إلى ممارسة.
- التلخيص والتأطير : تضمنت الإجراءات توفير ملخص لكل تقرير بحثي وختام العمل بـ “تأطير حول تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي” كابتكار تعليمي ، مما يمثل عملية تحليلية لتوجيه الرأي العام لنحو النتائج المجمعة في العمل.
أهم النتائج (التحليل الموضوعي)
يقدم العمل خلاصة تحليلية شاملة للنتائج الرئيسية للتقارير المضمنة، مُصنفة حسب السياق لعل من أهمها الآتي:
1. تبني المعلمين للذكاء الاصطناعي التوليدي واستخدامه التعليمي
- عوامل التبني: يتوافق تبني المعلمين للذكاء الاصطناعي التوليدي مع المبادئ الأساسية لنظرية الانتشار (diffusion theory). كما أن الارتباط بين تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي واستخدامه وبين التطوير المهني يتسق مع تقارير سابقة.
- التوجهات الدولية: أظهرت دراسة دولية (عبر 15 دولة) أن المعلمين يميلون إلى الحفاظ على منظور نقدي لاستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي للتدريس والتعلم. ومع ذلك، وُجد أن الذكاء الاصطناعي يوفر فوائد، بما في ذلك زيادة الكفاءة في تخطيط الدروس، وتقييم عمل الطلاب، وفرص التعاون.
2. مرحلتا التعليم الابتدائي والإعدادي
- المكاسب التعليمية: في التعليم الابتدائي، أدى استخدام نهج ثقافي-تكنولوجي-سياقي (CTCA) القائم على الذكاء الاصطناعي إلى تحقيق مكاسب تعليمية أعلى مقارنة بالتعليم التقليدي.
- التعلم قصير وطويل الأمد: مقارنة بين باني المفردات المدعوم بالذكاء الاصطناعي والبطاقات التقليدية (flashcards) أظهرت مكاسب كبيرة على المدى القصير لصالح الذكاء الاصطناعي، ولكن لم تكن هناك فروق ذات دلالة إحصائية على المدى الطويل.
- وجهات نظر الطلاب الإعدادية: أدرك طلاب المرحلة الإعدادية أهمية إشراف المعلم على استخدامهم للذكاء الاصطناعي التوليدي والحاجة إلى تقييد استخدامه في التقييمات.

3. التعليم الثانوي ومهارات القرن الحادي والعشرين
- الإلمام بالذكاء الاصطناعي (AI Literacy): كشفت دراسات عن تحقيق مكاسب كبيرة في فهم الطلاب لتوليد النصوص القائم على الذكاء الاصطناعي ، لكنها أشارت كذلك إلى تحديات في الانتقال إلى فهم عمليات الذكاء الاصطناعي التوليدي، واستمرار بعض المفاهيم الخاطئة حوله.
- الارتباط والانخراط: أظهرت دراسة حول استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في تعلم اللغة الإنجليزية (كتابة) دليلاً على مثابرة الطلاب في البحث عن التغذية الراجعة وتصحيح الأخطاء، والانخراط في التفكير النقدي، مما يؤكد الحاجة لتضمين المتغيرات العاطفية في البحث.
- صياغة الأوامر (Prompting): أشارت الأبحاث إلى أن الطلاب يحتاجون إلى تعليمات وممارسة محددة لتطوير أوامر لاذكاء التوليدي (GAI prompts) للوصول للمخرجات المطلوبة بدقة.
4. القضايا الأخلاقية والاجتماعية
- القيود الأخلاقية: كشفت الأبحاث عن قضايا شائعة تتضمن الاعتبارات الأخلاقية، والتحيز، والإفراط في الاعتماد، والخصوصية.
- الفجوة الرقمية (Digital Divide): أُثيرت مخاوف بشأن إمكانية أن يؤدي التحكم في الوصول إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي والمعرفة به إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية، مثل توسيع الفجوة الرقمية.
أهم جوانب النقد الموجه للعمل
بما أن الدراسة تُعد عملاً مجمعا من باقي دراسات العدد بأسلوب دراسة الدراسات – كما سبقت الإشارة-، فإن النقد يوجه إلى طريقة معالجتها للموضوع ونطاق التحليل:
- نقص التحليل البعدي Meta-Analysis : رقم ما قام به لكاتب من بتنظيم الأوراق البحثية وتقديمها بشكل جيد، فإن العمل كان أقرب إلى العرض الموجز لمحتويات العدد الخاص أكثر من كونه تقدم تحليل بعدي (Meta-Analysis). على سبيل المثال، تم تقديم دراسة المفردات التي أظهرت فشل الذكاء الاصطناعي في تحقيق الاستدامة على المدى الطويل ؛ إلا أن المقالة لم تتوقف طويلاً عند هذه النتيجة الحرجة لتقديم تحليل منهجي أو نظري لأسباب هذا الفشل أو لمناقشة الآثار النظرية لذلك على تصميم التوجهات التعليمية المستقبلية باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي. كان يمكن تعزيز المقالة بتفصيل أعمق مثل الـ (المنهج الثقافي-التكنولوجي-السياقي).CTCA وعلاقتها بـالذكاء الاصطناعي التوليدي.
- معالجة القضايا الأخلاقية والاجتماعية (Ethical and Societal Issues): على الرغم من أن المقالة أشارت إلى قضايا هامة مثل الأخلاق والتحيز والخصوصية والفجوة الرقمية ، إلا أن المعالجة كانت سريعة وموجزة، ولم تتضمن مقترحات واضحة أو أطر عمل نظرية لكيفية قيام القيادات التربوية أو الأكاديميين بمعالجة هذه التحديات بشكل استباقي ومؤسسي. بالنظر إلى أن ناديلسون متخصص في دراسات القيادة ، كان من المتوقع أن يُخصص جزء أكبر لتحليل كيفية دمج هذه الاعتبارات في السياسات التعليمية والإدارية الملموسة.
- إغفال نماذج تبني الابتكارات : تشير المقالة إلى أن المؤلف يركز على تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي كـ ابتكار تعليمي. ومع ذلك، فإن إغفال التذكير الواضح بـ نموذج تنفيذ الابتكار (educational innovation implementation behaviors) الذي شارك فيه المؤلف سابقاً (Nadelson and Seifert, 2016) يمثل قصوراً. كان يمكن لربط النتائج في هذا العدد بشكل مباشر بإطاره النظري السابق أن يعزز من قوة التحليل ويوفر إطاراً أكثر تماسكاً لفهم انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي.
- إشكالية دمج النتائج): لم تقدم المقالة توضيحاً منهجياً لكيفية دمج النتائج الكمية والكيفية للدرسات المستعرضة تحت مظلة واحدة.
- استخدام التمثيل البصري للنتائج: لم يتم استخدام إيه من أدوات التمثيل البصري كالجداول والرسومات التوضيحية والبيانية التي قد تعبر عن النتائج وتسهل إدراك نقاط الالتقاء بينها ( كما هو حادث في الدراسات الببليومترية على سبيل المثال) وقد صعب هذا من الاستفادة من محتوى العمل بشكل كبير.
في الختام، تُعد مقالة الدكتور ناديلسون بمثابة خدمة أكاديمية متميزة للمجال، حيث تجمع الأبحاث الراهنة حول الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم قبل الجامعي. ويمكن القول أنها نجحت في تلبية هدفها المعلن المتمثل في تقديم خارطة طريق للممارسين. ومع ذلك، يمكن للأعمال المشابهة المستقبلية في هذا المجال أن تستفيد من إضافة بُعد نقدي تحليلي أعمق، لا يكتفي بعرض النتائج بل يناقش التناقضات النظرية والمنهجية بشكل أكثر تفصيلاً لتعزيز النقلة النوعيةة في بحوث تكنولوجيا التعليم.
بوابة تكنولوجيا التعليم أول بوابة عربية تهتم بتكنولوجيا التعليم والتعليم الإلكتروني منذ عام 2003

