إعداد: د. مصطفى جودت صالح
شهد العالم تحولاً غير مسبوق مع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، الذي تبناه مئات الملايين حول العالم في استخدامات متنوعة تشمل إيجاد الإجابات، وإنجاز المهام، وتصميم أنظمة التعلم. يُعتبر هذا التحول تطوراً له جذور عميقة في دراسة الدماغ وآلية التعلم ، مما يجعله -بلا جدال- التكنولوجيا الأكثر أهمية لتوصيل التعلم في تاريخنا.
كما مثل ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتحديداً نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)، نقطة تحول جذرية في مشهد التعليم الإلكتروني والتدريب. لقد تجاوزت هذه التكنولوجيا كونها مجرد أداة لإنشاء المحتوى؛ لتصبح مُنظِّمًا معرفيًا فعالًا يشارك المتعلم في حوار تفاعلي مستمر. ولفهم الأثر العميق لهذه الثورة، لا يكفي النظر إلى تطبيقاتها السطحية، مثل توليد الفيديوهات والصور والحوارات الترفيهية، بل يجب الغوص في النظريات التعليمية التي أسهمت في بلورة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي. إن الذكاء الاصطناعي التوليدي، في جوهره، هو تتويج لعقود من البحث في كيفية تعلم الدماغ البشري.
لعل الدافع لكتابتي هذا المقال ما شهدته مؤخرا من كتابات حول الذكاء الاصطناعي في التعليم والتي ركزت على مجرد تطبيقات تجارية متغيرة وكيفية استخدامها في بعض جوانب العملية التعليمية كتطوير المحتوى وتحليل بيانات التعلم ، أو كتابات تناولت دور الذكاء الاصطناعي في تطوير التعليم ودعم المتعلمين، لكن لم تقع عيني إلا على كتابات محدودة أجنبية حول الربط بين الذكاء الاصطناعي ونظريات التعلم وكيف أسهم التعليم في نشأة وتطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي.
العلاقة بين نظريات علم النفس التعليمي وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي
كإطار عام وقبل الخوض في التفاصيل الفنية يمكن أن نقول أن بحوث الذكاء الاصطناعي ركزت على تفسير نظرية علم النفس التعليمي عن كيفية حدوث التعلم في الدماغ البشري من جهة، وتفسير آليات تعزيز إكتساب المعرفة وبناء استراتيجيات ناجة لذلك من جهة أخرى ويمكن النظر في البداية إلى ثلاث مدارس في علم النفس التعليمي هي السلوكية والمعرفية والبنائية كأساس للربط بين نظريات علم النفس وبحوث الذكاء الاصطناعي.
استفاد العلماء من النظرية السلوكية (Behaviorism) في تطوير خوارزميات التعلّم بالتعزيز (Reinforcement Learning) داخل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث تُكافأ النماذج عندما تنتج مخرجات صحيحة أو مرغوبة وتُعدّل عند الخطأ، تمامًا كما يُكافأ المتعلم في بيئة التعلم السلوكي. ويُستخدم هذا المبدأ اليوم في تدريب النماذج اللغوية الكبيرة مثل GPT عبر ما يُعرف بـ التعلم المعزز بتغذية راجعة بشرية (RLHF)، لضبط استجاباتها وجعلها أكثر اتساقًا مع السلوك البشري المقبول.
كما أسهمت النظرية المعرفية (Cognitivism) في تصميم بنية الشبكات العصبية التي تحاكي طريقة معالجة المعلومات في الدماغ البشري، من خلال تمثيل الذاكرة العاملة طويلة وقصيرة المدى داخل طبقات النموذج. فالمعاملات بين الطبقات تماثل مراحل التفكير البشري كالتشفير والتخزين والاسترجاع، مما أتاح للنماذج التوليدية تحليل الأنماط اللغوية وفهم السياق بطريقة معرفية منظمة.
أما النظرية البنائية (Constructivism) فقد كانت الأساس المفاهيمي لتطوير قدرة النماذج التوليدية على ابتكار المعرفة الجديدة بدلاً من مجرد استرجاعها. فكما يبني المتعلم البشري فهمه الخاص من خلال التجربة والتفاعل، تُولِّد هذه النماذج محتوى جديدًا اعتمادًا على الأنماط السابقة في البيانات. وهكذا أسهمت نظريات علم النفس التعليمي بشكل مباشر في صياغة آليات التعلم، والتفكير، والإبداع داخل الذكاء الاصطناعي التوليدي.
في مراحل لاحقة سنتطرق لهذه العلاقة بشكل أكثر تفصيلا مع أمثلة فعلية تبلور العلاقة بين بحوث علم النفس وبحوث الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي التوليدي بين النظرية الاتصالية والتعلم العميق
كما أشرت بالمقدمة فإنه تستمد بنية الذكاء الاصطناعي التوليدي أساسها من محاولة محاكاة العمليات البيولوجية للتعلم في الدماغ البشري. فقد بُنيت الشبكات العصبية الاصطناعية على نموذج الخلايا العصبية الحقيقية، حيث تمثل كل “عقدة” في الشبكة خلية عصبية رقمية، وتتبادل الإشارات عبر “أوزان” تماثل المشابك العصبية في الدماغ. وخلال عملية التعلم، تُعدّل هذه الأوزان استنادًا إلى الأخطاء الناتجة عن التنبؤ، في محاكاة مباشرة لمبدأ اللدونة العصبية Neuroplasticity الذي يجعل الدماغ يعيد تشكيل اتصالاته بناءً على الخبرة والتكرار.

يوضح الإنفوجراف مفهوم اللدونة العصبية (Neuroplasticity)، أي قدرة الدماغ على إعادة تنظيم نفسه من حيث البنية والوظيفة. يبيّن أن الدماغ يتغير بطرق متعددة، منها: توليد خلايا عصبية جديدة (Neurogenesis) في مناطق معينة، وتكوين مشابك عصبية جديدة (New Synapses) عند تعلم مهارات أو معلومات جديدة، إضافة إلى تقوية المشابك العصبية (Strengthened Synapses) من خلال التكرار والممارسة، بينما تضعف المشابك غير المستخدمة (Weakened Synapses) مع مرور الوقت. يعكس ذلك كيف يتطور الدماغ باستمرار استجابة للتجارب والتعلم والخبرة.
أما في النماذج التوليدية مثل GPT أو DALL·E، فيُستفاد من هذه البنية لمحاكاة جانب آخر من الذكاء البشري، وهو القدرة على الإبداع والتوليد. فكما يقوم الإنسان بتكوين أفكار جديدة استنادًا إلى أنماط وخبرات سابقة، تُحلل هذه النماذج كميات ضخمة من البيانات لتتعلم أنماط اللغة أو الصورة أو الصوت، ثم تولد منها محتوى جديدًا متماسكًا. وهكذا يمثل الذكاء الاصطناعي التوليدي خطوة متقدمة نحو محاكاة ليس فقط تعلم الإنسان، بل أيضًا طريقته في التفكير والابتكار.
يُعد التعلّم المبني على الدماغ (Brain-Based Learning) منهجًا تربويًا يستند إلى فهم آلية عمل الدماغ في معالجة المعلومات، بهدف تصميم بيئات تعليمية تتوافق مع طبيعة التعلم البيولوجي. ينطلق هذا النهج من أبحاث علم الأعصاب التي أثبتت أن الدماغ يتعلم بشكل أفضل عندما تكون بيئة التعلم آمنة، ومحفزة، وتسمح بالربط بين الخبرات السابقة والجديدة. ويركز على دور الانفعالات، والتكرار، واستخدام الحواس المتعددة في تعزيز التعلم، إذ تساهم هذه العوامل في تنشيط مناطق مختلفة من الدماغ وتسهيل ترسيخ المعلومات في الذاكرة طويلة المدى.
كما يؤكد التعلم المبني على الدماغ أهمية اللدونة العصبية (Neuroplasticity)، أي قدرة الدماغ على بناء وصلات عصبية جديدة استجابة للتجربة والتدريب، مما يعني أن كل طالب قادر على التطور إذا توفرت له بيئة تعلم غنية ومتنوعة. ولذلك، يدعو هذا التوجه إلى اعتماد استراتيجيات تعليمية مثل التعلم القائم على المشاريع، والتعلم النشط، وربط المحتوى بالواقع العملي، بما يجعل التعليم أكثر توافقًا مع طريقة الدماغ الطبيعية في التفكير والتذكر والفهم.
نظرية هيب والمدرسة الاتصالية (Connectionism): تعد نظرية هيب (Hebbian Theory) من أهم الأسس التي قامت عليها النماذج الاتصالية في علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي. وضعها عالم النفس الكندي دونالد هيب عام 1949، وتنص على أن “الخلايا العصبية التي تنشط معًا، تتصل معًا” (cells that fire together, wire together). أي أن قوة الاتصال بين خليتين عصبيتين تزداد كلما تم تنشيطهما في الوقت نفسه بشكل متكرر. تمثل هذه النظرية الأساس البيولوجي لفكرة التعلم بالتجربة، حيث تُقوَّى الروابط العصبية المسؤولة عن الأنماط المتكررة من النشاط العصبي، ما يؤدي إلى بناء الذاكرة وتشكيل العادات والتعلم المستمر في الدماغ.
أما الاتصالية (Connectionism) فهي منهج نظري في فهم الإدراك والتعلم يعتمد على محاكاة هذه المبادئ البيولوجية باستخدام شبكات من وحدات مترابطة تشبه الخلايا العصبية. يرى هذا الاتجاه أن المعرفة لا تُخزَّن في مكان واحد، بل تنشأ من تفاعلات الأنماط داخل الشبكة كلها. وقد شكلت هذه الفكرة الأساس لتطور الشبكات العصبية الاصطناعية في الذكاء الاصطناعي الحديث، بما في ذلك النماذج التوليدية، إذ تحاول محاكاة طريقة الدماغ في معالجة المعلومات من خلال التوزيع، والاتصال، والتعلم من التجربة المتكررة.
الاتصالية المشار إليها في الفقرة السابقة ليست هي النظرية الاتصالية المعروفة في التعليم التي نشأت على يد جورج سيمنز (George Siemens) وستيفن داونز (Stephen Downes) في أوائل القرن الحادي والعشرين لتفسير كيف يتعلم الأفراد في عصر المعرفة الرقمية والشبكات. تقوم النظرية على فكرة أن المعرفة ليست محصورة داخل عقل الفرد، بل تتوزع عبر شبكة من المصادر البشرية والتقنية، وأن التعلم هو عملية بناء روابط (Connections) بين هذه المصادر. فالمتعلم الفعّال هو من يستطيع إنشاء شبكات معرفية متنوعة والحفاظ على تحديثها باستمرار.
ماكولوتش وبيتس والنموذج المنطقي: أثمرت أفكار هيب عن أول نموذج حاسوبي للخلية العصبية الاصطناعية من قبل وارن ماكولوتش ووالتر بيتس. قام نموذجهما بتمثيل الدائرة العصبية كآلية منطقية رياضية (Boolean logic)، أثبتت إمكانية محاكاة العمليات العقلية المعقدة. ومع ذلك، بقيت هذه النماذج الأولية محدودة في قدرتها على التعلم والتكيف.
ويُعد ماكولوتش وبيتس (McCulloch & Pitts) من الرواد الأوائل في وضع الأساس النظري للشبكات العصبية الاصطناعية. ففي عام 1943 قدّما النموذج المنطقي للخلية العصبية (Logical Model of the Neuron)، وهو أول محاولة رياضية لتمثيل طريقة عمل الخلية العصبية في الدماغ. افترض الباحثان أن كل خلية عصبية تتلقى مجموعة من الإشارات (مدخلات) من خلايا أخرى، وتقوم بجمعها ومقارنتها بحدّ معين (Threshold)، فإذا تجاوزت الإشارات هذا الحد أطلقت الخلية استجابة (خرجًا) يعبّر عنه بقيمة منطقية (1 أو 0).

يمثل هذا النموذج الدماغ كنظام يمكن تفسيره وفق المنطق الرياضي والبوابات المنطقية مثل AND وOR وNOT، وهو ما مهد الطريق لظهور الاتصالية (Connectionism) والشبكات العصبية اللاحقة. ورغم بساطة نموذج ماكولوتش وبيتس، فإنه وضع اللبنة الأولى لفكرة أن العمليات العقلية يمكن تمثيلها ومعالجتها حسابيًا، أي أن الذكاء يمكن محاكاته من خلال بنى رياضية تشبه بنية الدماغ البشري.
البيرسيبترون (Perceptron) أول آلة قابلة للتعلم: مثل اختراع فرانك روزنبلات للـ “بيرسيبترون” في عام 1960 أول آلة تعليمية عملية. كان البيرسيبترون قادراً على التعلم من خلال تكييف أوزان روابطه العصبية (الأوزان)، ولكنه اصطدم بحدود حاسمة أوضحها مارفن مينسكي وسيمور بابرت في كتابهما Perceptrons عام 1969، حيث أثبتا عجز الشبكات أحادية الطبقة عن حل المشاكل غير الخطية البسيطة مثل “المعامل XOR” (Exclusive OR). أدت هذه الانتقادات إلى “شتاء الذكاء الاصطناعي” في مجال الشبكات العصبية.

الانتشار الخلفي والتعلم العميق: جاء الإحياء الكبير للشبكات العصبية في منتصف الثمانينيات مع عمل ديفيد روملهارت وجيفري هينتون وآخرين، الذين طوروا خوارزمية الانتشار الخلفي للأخطاء (Backpropagation). سمحت هذه الخوارزمية بتدريب الشبكات العصبية متعددة الطبقات (Deep Neural Networks)، حيث يتم حساب الخطأ وتمريره خلفيًا لتعديل الأوزان في كل طبقة. أدت هذه الآلية إلى إطلاق حقبة التعلم العميق، والتي تُوّجت لاحقاً بظهور نموذج “المحوّل” (Transformer) الذي يعتمد على آليات الانتباه الذاتي (Self-Attention) وهو البنية المعمارية الأساسية التي تقوم عليها جميع نماذج اللغة الكبيرة الحديثة (LLMs). هذا التحول الجذري في بنية التعلم الاصطناعي يربط النظريات العصبية المؤسسة بالواقع التكنولوجي الراهن للذكاء الاصطناعي التوليدي.
فلسفة الحوار والتعلم كبنية اجتماعية
القدرة الجوهرية للذكاء الاصطناعي التوليدي هي محاكاة الحوار الطبيعي، مما يضعها في قلب النظريات التي تعتبر اللغة والتفاعل مفتاحاً للتعلم. حيث أن جوهر هذا النوع من الذكاء الاصطناعي يتمثل في قدرته على فهم اللغة البشرية والتفاعل بها بطريقة تحاكي التواصل الإنساني الحقيقي. فالذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل النماذج اللغوية الكبيرة (GPT)، يعتمد على تحليل كميات هائلة من النصوص لفهم الأنماط اللغوية والسياقات والمعاني، مما يمكّنه من إنتاج استجابات مترابطة ومنطقية تشبه ما قد يقوله الإنسان في مواقف متنوعة.
وتكمن أهمية هذه القدرة في أنها تجعل التفاعل مع التقنية أكثر طبيعية وسلاسة، بحيث يمكن للمستخدم أن يتحدث أو يكتب بلغة يومية دون الحاجة إلى أوامر برمجية معقدة. فالنظام لا يكتفي بتوليد كلمات، بل يفهم المقصود، ويستجيب وفق السياق، ويظهر نوعًا من التكيّف مع أسلوب المحادثة. وبهذا المعنى، فإن محاكاة الحوار الطبيعي تمثل الركيزة التي تجعل الذكاء الاصطناعي التوليدي أقرب إلى التفكير البشري، وأكثر قدرة على أداء مهام التواصل والتعليم والمساعدة البشرية بفعالية.
المنهج السقراطي والـ “مِيُوطيقا” (Maieutics): يشير مفهوم Maieutics أو فنّ التوليد المعرفي إلى الطريقة التي استخدمها سقراط في الحوار، حيث كان يقود المتعلم بأسئلة متتابعة لا ليزوّده بالمعرفة مباشرة، بل ليُعينه على اكتشافها بنفسه. يقوم هذا المنهج على الإقناع بالعقل والحوار التفاعلي، وعلى اعتبار أن المعرفة كامنة داخل الإنسان ويمكن استخراجها من خلال التفكير النقدي والتساؤل الموجّه.
تُعد هذه الفكرة أساسًا فلسفيًا مهمًا لأنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة، خصوصًا تلك المصممة للتعليم أو المساعدة في التعلم، مثل النماذج الحوارية (ChatGPT). فبدلًا من إعطاء الإجابة جاهزة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يستخدم النهج السقراطي في طرح أسئلة محفزة وتقديم توجيهات تدريجية، مما يساعد المتعلم على بناء الفهم الذاتي. وهكذا يُمثل الدمج بين الـMaieutics والذكاء الاصطناعي خطوة نحو تطوير أنظمة تعليمية أكثر تفاعلية وإنسانية، تحفّز التفكير العميق بدلاً من التلقين.
مما تقدم يتضح أن الحوار التوليدي يتجسد في النموذج السقراطي للتعليم، أو ما يُعرف باسم “المِيُوطيقا” في كون التطبيقات الذكية لا تقدم الإجابة مباشرة، بل تطرح أسئلة متسلسلة تدفع المتعلم إلى استخلاص المعرفة بنفسه. هذا الأسلوب لا يضمن حفظ المعلومة، بل يضمن بناءها داخلياً. يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يوفر هذا التفاعل الاستقرائي المُتقن بأسلوب قابل للتوسع لا يمكن تحقيقه عبر التدريس البشري الفردي إلا بتكلفة باهظة.
تعدد الأصوات اللغوية (Heteroglossia): شدد ميخائيل باختين على أن اللغة مُتعددة الأصوات بطبيعتها، حيث يتشكل المعنى من خلال التفاعل مع منظورات اجتماعية وثقافية مختلفة. يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي تحقيق مفهوم تعدد الأصوات اللغوية عبر محاكاة شخصيات مختلفة (مثل مُعلم، زميل، مُنتقد، أو مؤيد)، مما يعرض المتعلم لتنوع الخطابات ويُطوّر لديه التفكير النقدي وقدرته على تركيب المعرفة من مصادر متباينة.
نظرية المحادثة (Conversation Theory) لجوردون باسك ونظم التحكم: تُعد نظرية جوردون باسك واحدة من أهم الأطر النظرية للذكاء الاصطناعي التوليدي. ركز باسك على أن التعلم هو عملية سايبرنيطيقية (Cybernetic)، حيث يشكل التدريس والتعلم “محادثات” تعمل كنظام تحكم مغلق. التعلم، وفقاً لباسك، يتطلب:
- التفاهم المتبادل (Mutual Understanding): التأكد من أن الطرفين (المتعلم والنظام) يشتركان في تفسير واحد للمفهوم.
- الاستدامة الذاتية (Self-Organization): قدرة النظام على التكيف وتعديل استراتيجيته في الحوار بناءً على استجابة المتعلم.
إن نماذج اللغة الكبيرة هي تجسيد مثالي لهذه السايبرنيطيقية، فهي لا تُقدم المعلومات فحسب، بل تُعدِّل استجاباتها بصورة متجددة (Recursive) مع كل مدخل من المتعلم، لضمان استمرار عملية البناء المعرفي.
فيجوتسكي والذكاء الاصطناعي كوسيط ثقافي
أكد ليف فيجوتسكي على أن التطور المعرفي يتم من خلال التفاعل الاجتماعي والوساطة الثقافية. يُمكن تصنيف الذكاء الاصطناعي التوليدي كـ أداة ثقافية (Cultural Tool) بالمعنى الفيجوتسكي، حيث:
الوسيط والأداة الرمزية (Sign System): بالنسبة لفيجوتسكي، الأداة الثقافية هي أي شيء (مثل اللغة، الآلة الحاسبة، أو الحاسوب) يساعد على تنظيم الفكر. يعمل الذكاء الاصطناعي التوليدي كوسيط رمزي (Sign System)، حيث يُنظّم ويُبني لغة الحوار لرفع المتعلم إلى مستوى أعلى من التفكير.
منطقة التطور القريب (ZPD) والآخر العارف الافتراضي: تُعرّف منطقة التطور القريب بأنها المساحة بين ما يمكن للمتعلم إنجازه بمفرده، وما يمكنه إنجازه بمساعدة من هو “أكثر معرفة”. يمثل الذكاء الاصطناعي التوليدي هذا “الآخر العارف” (Knowledgeable Other) الافتراضي، الذي لا يُقدم الإجابة النهائية، بل يحدد بدقة النقطة التي يحتاجها المتعلم للوصول إلى الخطوة التالية. هو يوفر السقالات (Scaffolding) اللازمة ضمن ZPD، حيث يلتقط الأخطاء والثغرات المعرفية في حوار المتعلم ليوجه السؤال أو التلميح المناسب الذي يحفز الحل بدلاً من تقديمه.
لمزيد من المعلومات حول النظرية يمكن قراءة المقال :
التصميم التعليمي بين ركائز التعلم ودعاماته
https://drgawdat.edutech-portal.net/archives/18152
التعلم المُخصص والذكاء الاصطناعي التوليدي
لطالما كان التحدي الأكبر في التعليم التقليدي هو تحقيق الإتقان الفردي. يقدم الذكاء الاصطناعي التوليدي الحل لهذه “المعضلة”.
بلوم ومشكلة السيجما 2 (The 2 Sigma Problem): طرح عالم النفس التربوي الأمريكي بنيامين بلوم (Benjamin Bloom) في عام 1984 ما عُرف باسم مشكلة السيجما 2 (The 2 Sigma Problem)، بعد أن لاحظ أن الطلاب الذين يتعلمون بطريقة التدريس الفردي (One-to-One Tutoring) يحققون أداءً أفضل بمقدار انحرافين معياريين (2σ) عن أقرانهم الذين يتعلمون بالطريقة الصفّية التقليدية. أي أن المتعلم المتوسط في بيئة التعلم الفردي يصبح ضمن أفضل 2% من الطلاب في الصف التقليدي، وهو فارق كبير مما أثار سؤال بلوم: كيف يمكن تحقيق فاعلية التدريس الفردي على نطاق واسع؟
منذ ذلك الوقت، حاول الباحثون إيجاد حلول تحقق أثر “السيجما 2” دون الحاجة لتدريس فردي مكلف. وهنا برز دور التقنيات الذكية وأنظمة التعلم التكيفي (Adaptive Learning Systems) المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، إذ أصبحت قادرة على محاكاة دور المعلّم الفردي من خلال تحليل أداء المتعلم وتخصيص المحتوى والتغذية الراجعة بما يناسب احتياجاته. وهكذا تمثل مشكلة السيجما 2 الأساس النظري الذي يدفع تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعليم نحو تحقيق تعلم مخصص وفعّال يقارب أثر التعليم الفردي الذي وصفه بلوم.
نظرية التقرير الذاتي (SDT) وتعزيز الوكالة (Agency): نظرية التقرير الذاتي (Self-Determination Theory – SDT) هي إحدى أهم نظريات الدافعية الإنسانية، وضعها العالمان إدوارد ديسي (Edward Deci) وريتشارد رايان (Richard Ryan) في سبعينيات القرن العشرين. تركز النظرية على فهم الأسباب التي تجعل الأفراد يتعلمون أو يعملون بدافع داخلي (Intrinsic Motivation) بدلاً من الاعتماد فقط على الحوافز الخارجية مثل الدرجات أو المكافآت. وتفترض أن الدافعية الداخلية تنشأ عندما تُلبّى ثلاث حاجات نفسية أساسية هي: الاستقلالية (Autonomy)، أي شعور المتعلم بأنه يملك حرية الاختيار؛ الكفاءة (Competence)، أي إحساسه بالقدرة على النجاح وإتقان المهام؛ والانتماء أو الارتباط (Relatedness)، أي شعوره بالعلاقة الإيجابية مع الآخرين في بيئة التعلم.
تُستخدم هذه النظرية على نطاق واسع في تصميم بيئات التعلم الحديثة، بما في ذلك أنظمة التعلم الذكية والتعليم التكيفي، حيث يُراعى تهيئة أنشطة تشجع المتعلم على اتخاذ قراراته بنفسه، وتقديم تغذية راجعة تُعزّز إحساسه بالكفاءة، وبناء مجتمعات تعلم داعمة. ومن هذا المنطلق، أسهمت نظرية التقرير الذاتي في توجيه تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم نحو تحقيق تجربة تعلم أكثر تحفيزًا وإنسانية، توازن بين الاستقلالية والتفاعل والدعم الموجّه.
تربط نظرية التقرير الذاتي (SDT) بين الدافعية الجوهرية للتعلم وتلبية ثلاث حاجات نفسية أساسية:
- الاستقلالية (Autonomy): يمنح الذكاء الاصطناعي المتعلم القدرة على التحكم في مسار المحادثة، وتحديد وتيرة التعلم، واستكشاف المحتوى وفقاً لاهتمامه.
- الكفاءة (Competence): من خلال توفير تحديات مُحكمة وتغذية راجعة فورية وواضحة، يعزز الذكاء الاصطناعي الشعور بالإتقان والتقدم الفعلي.
- الارتباط (Relatedness): على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي ليس بشراً، إلا أن الطبيعة الحوارية والشخصية للتفاعل تخلق شكلاً من أشكال الارتباط المعرفي الذي يدعم الدافعية.
إن تلبية هذه الاحتياجات عبر واجهة الذكاء الاصطناعي التوليدي تضمن تحول الدافع الخارجي إلى دافع جوهري، مما يؤدي إلى تعلم أعمق وأكثر استدامة.
ماير ونظرية الحمل المعرفي (Cognitive Load Theory): تدعم مبادئ تصميم التعلم لريتشارد ماير، القائمة على نظرية الحمل المعرفي، تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي. فـ مبدأ التخصيص (Personalization Principle) يحث على استخدام لغة حوارية وشخصية بدلاً من السرد الرسمي، وهو ما يتوافق تماماً مع طبيعة روبوتات الدردشة. كما يدعم مبدأ التجزئة (Segmenting Principle) تقديم المحتوى في أجزاء صغيرة ومُنظمة يسيطر عليها المتعلم. يتيح الذكاء الاصطناعي التوليدي إدارة الحمل المعرفي (Cognitive Load) ببراعة، حيث يقدم المعلومات بطريقة تفاعلية وموزعة، مما يقلل من تشتيت الانتباه ويزيد من فعالية المعالجة العميقة.
للمزيد يمكن الرجوع لمقال : مبادئ تصميم المحتوى التعليمي الرقمي https://drgawdat.edutech-portal.net/archives/16488
التعلم المنظم ذاتيا والتطبيقات الذكية: يُشير التعلم المنظَّم ذاتيًا (Self-Regulated Learning – SRL) إلى قدرة المتعلم على تخطيط تعلمه ومراقبته وتقييمه باستقلالية، من خلال تحديد الأهداف، واختيار الاستراتيجيات المناسبة، وضبط الجهد والانتباه. وقد أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم أداة قوية لدعم هذا النوع من التعلم، إذ تتيح أنظمة التعلم الذكية تتبع سلوك المتعلمين وتحليل بياناتهم لتقديم تغذية راجعة فورية وتوصيات مخصصة تساعدهم على تحسين أدائهم وتنظيم وقتهم واستراتيجياتهم.
ومن خلال خوارزميات التعلّم الآلي والتعلم التكيفي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتنبأ بنقاط الضعف والقوة لدى المتعلم ويقترح موارد تعليمية مناسبة، مما يعزز الاستقلالية والوعي بالذات في عملية التعلم. وهكذا يسهم الذكاء الاصطناعي في تحويل المتعلم من متلقٍ سلبي إلى متعلم فاعل قادر على إدارة تعلمه بوعي ومرونة، وهو ما يجعل الدمج بين التعلم المنظَّم ذاتيًا والذكاء الاصطناعي اتجاهًا محوريًا في التعليم الحديث.
معالجة المعلومات والذكاء الاصطناعي التوليدي: بين النظرية والتطبيق
تنظر نظرية معالجة المعلومات (IPT) إلى العقل كنظام يقوم بترميز المعلومات وتخزينها واسترجاعها عبر سِجِلات حسيّة، وذاكرة عمل محدودة السعة، وذاكرة طويلة المدى. وقد تم تركيب هذا الهيكل من خلال “النموذج النموذجي” (modal model) لأتكنسون وشيفرين (Atkinson–Shiffrin)، وتم توسيعه عبر الأبحاث المتعلقة بحدود ذاكرة العمل ونظرية الحمل المعرفي. إن القيد المعروف الذي ينص على أن الأفراد لا يمكنهم التعامل إلا مع عدد قليل من العناصر في وقت واحد يُشكّل أساساً لخيارات التصميم العملية في واجهات الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث يساعد تبسيط المدخلات، وتجزئة المخرجات (chunking)، وتنظيم وتيرة التفاعلات، المستخدمين على معالجة محتوى الذكاء الاصطناعي دون إرهاق أو إغراق معرفي. وفي سياق التفاعلات بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، تؤكد التوجيهات الصادرة عن مجالات التفاعل البشري الحاسوبي (HCI) والمعلوماتية الصحية على ضرورة تقليل الجهد العقلي الزائد ومعايرة الثقة، لكي يقوم الذكاء الاصطناعي بزيادة وتقوية الإدراك البشري بدلاً من إرباكه وإغراقه، وهذا يمثل صدى تطبيقياً لتركيز نظرية معالجة المعلومات على كفاءة تدفق المعلومات.

يُوضّح الرسم المراحل الأساسية التي تصفها نظرية معالجة المعلومات (Information Processing Theory) حول كيفية استقبال الدماغ للمعلومات وتخزينها. تبدأ العملية عندما تصل المعلومات من البيئة الخارجية إلى الفرد، حيث تُسجَّل أولًا في الذاكرة الحسية (Sensory Memory) التي تحتفظ بالمثيرات لفترة وجيزة جدًا. إذا لم يُوجَّه الانتباه إليها تُنسى سريعًا، أما إذا تم التركيز عليها فتُنقل إلى الذاكرة قصيرة المدى (Short-Term Memory).
في الذاكرة قصيرة المدى، تُعالج المعلومات لفترة محدودة، ويمكن الحفاظ عليها لفترة أطول عبر إعادة التكرار (Rehearsal). وإذا تم تنظيمها وفهمها جيدًا، تُنقل بعد ذلك إلى الذاكرة طويلة المدى (Long-Term Memory)، حيث تُخزن بشكل دائم تقريبًا. وعندما يحتاج الفرد إلى استخدام هذه المعلومات لاحقًا، يمكن استرجاعها (Retrieved) وإعادتها إلى الذاكرة قصيرة المدى للمعالجة من جديد. يوضح الرسم بذلك أن التعلم الفعّال يعتمد على الانتباه، والمراجعة، والتنظيم، لأنها العوامل التي تُمكِّن من نقل المعرفة من الذاكرة المؤقتة إلى الدائمة.
نظرية معالجة المعلومات والذكاء الاصطناعي التوليدي: مغاهيم مشتركة.
تتطابق مفاهيم نظرية معالجة المعلومات بشكل مباشر مع المنهجيات الأساسية للذكاء الاصطناعي التوليدي:
- تُعد آليات الانتباه (Attention Mechanisms) في نماذج المحوّل (Transformer models) نظيراً حاسوبياً للانتباه الانتقائي، حيث تُركّز المعالجة على الرموز (tokens) الأكثر صلة لتحسين نمذجة التسلسل وإمكانية التحكم فيه.
- تقوم البنى المعمارية المُعززة بالذاكرة، مثل الحاسوب العصبي التفاضلي (Differentiable Neural Computer) وآلات تورينج العصبية (Neural Turing Machines)، بفصل المعالجة صراحةً عن ذاكرة خارجية قابلة للعنونة، مما يعكس التمييز بين موارد المعالجة والمعرفة المخزنة في إطارات نظرية معالجة المعلومات.
- تُوسِّع عملية التوليد المعزز بالاسترجاع (Retrieval-Augmented Generation – RAG) “ذاكرة العمل” للنموذج من خلال المعرفة الخارجية المستهدفة في وقت الاستدلال (inference time)، مما يحسن من الدقة والواقعية عبر ربط التوليد بسياق مسترجع بدلاً من الاعتماد على الذاكرة البارامترية (parametric memory) وحدها، ويُعد هذا تجسيدًا عمليًا لمسارات الترميز والاسترجاع المرحلية (staged encoding–retrieval pipelines).
- تُطبّق المناهج التدريبية التي تقدم المهام بتدرج من الأبسط إلى الأصعب مبدأ السقالات التعليمية (scaffolding) المستوحى من نظرية معالجة المعلومات، مما يؤدي إلى تقارب أسرع وتعميم أفضل في العديد من الإعدادات.
نظرية معالجة المعلومات وأثرها على تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم
يظهر تركيز نظرية معالجة المعلومات على السقالات التعليمية، والتجزئة، والممارسة الموجهة في الموجهين التعليميين المدعومين بالذكاء الاصطناعي، مثل نظام خانميجو (Khanmigo) التابع لأكاديمية خان والمدعوم بنموذج GPT-4. يستخدم هذا النظام الاستجواب السقراطي لحث المتعلم على التفكير التدريجي بدلاً من إعطاء الإجابة مباشرة، مما يحافظ على الجهد المعرفي “الملائم” (germane cognitive effort) الذي يبني المخططات المعرفية (schemas). وتبرز دراسات حوارات الموجه-الطالب وتتبع المعرفة في الإعدادات التوليدية كيف يمكن للاستجواب التكيفي والذاكرة للخطوات السابقة تخصيص المساعدة ضمن قدرة المعالجة للمتعلمين، مما يعكس المعالجة المرحلية وإشارات الاسترجاع الخاصة بنظرية معالجة المعلومات. كما تطبق صناعة الترفيه أفكاراً مماثلة على نطاق واسع؛ حيث يدمج نموذج NEO NPC لشركة يوبي سوفت (Ubisoft) بين الإدراك والذاكرة والحوار غير المُبرمج للحفاظ على تفاعلات متماسكة ومُخصصة، وهي حلقة شبيهة بنظرية معالجة المعلومات حيث يوجه الانتباه والذاكرة سلوكاً توليدياً ملائماً للسياق في الوقت الفعلي.
كلمة أخيرة :
بناءا على ما تقدم يمكن القول أن الذكاء الاصطناعي التوليدي في مسيرته التطورية أستفاد من مجموعة من العلوم الإنسانية والعقلية التي أسهمت في تشكيل بنيته ووظائفه. فمن علم النفس استلهم نماذج التعلم والتفكير، مثل السلوكية والمعرفية والبنائية، التي ساعدت في تطوير آليات التعلم العميق وتوليد المعرفة الجديدة. ومن اللغويات اكتسب فهمًا لبنية اللغة، وقواعدها، ودلالاتها، مما مكّنه من معالجة النصوص وتوليد اللغة الطبيعية بشكل منطقي ومتسق مع السياق.
كما استفاد هذا المجال من بحوث علم الأعصاب وآلية عمل الدماغ، خصوصًا في تصميم الشبكات العصبية الاصطناعية التي تحاكي الخلايا العصبية البشرية في طريقة استقبال المعلومات وتخزينها ومعالجتها. وقد ساهم ذلك في جعل الذكاء الاصطناعي التوليدي أكثر قدرة على التعلم الذاتي وتحسين الأداء عبر التجربة المستمرة، تمامًا كما يفعل الدماغ البشري من خلال اللدونة العصبية.
وفي جانب آخر، تأثر الذكاء الاصطناعي التوليدي بـ نظريات المحادثة والتفاعل الاجتماعي، فتعلم كيف يبني حوارًا طبيعيًا، ويتفاعل وفق السياق، ويظهر فهمًا للعواطف والنية التواصلية. وفي المقابل، أفاد هذا الذكاء جميع هذه المجالات بإعادة صياغة أسئلتها وتوسيع حدودها المعرفية، إذ أصبح أداة بحثية لفهم اللغة، والعقل، والتفاعل البشري بشكل أعمق من أي وقت مضى.
بوابة تكنولوجيا التعليم أول بوابة عربية تهتم بتكنولوجيا التعليم والتعليم الإلكتروني منذ عام 2003









