كريستوفر دي دي – Christopher Dede والتعلم الغامر

عرض: د. مصطفى جودت صالح

في عالم التعليم المتسارع التحوّل، يقف اسم كريستوفر دي. دي (Christopher Dede) كأحد أبرز المفكرين والباحثين الذين أسهموا في إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا والمعرفة. فحين يُذكر “التعلم الغامر” أو “الواقع الافتراضي في التعليم”، غالبًا ما يُستدعى فكر ديّ ومشاريعه التي شكلت أساس هذا الاتجاه في العقود الأخيرة.

كريستوفر ديدي، أستاذ تيموثي إي. ويرث في تكنولوجيا التعلم والتكنولوجيا والابتكار وبرنامج التعليم، جامعة هارفارد
كريستوفر ديدي، أستاذ تيموثي إي. ويرث في تكنولوجيا التعلم والتكنولوجيا والابتكار وبرنامج التعليم، جامعة هارفارد

وُلد كريستوفر ديّ في الولايات المتحدة عام 1947، وتنوّعت اهتماماته منذ بداياته الأكاديمية بين العلوم الطبيعية والإنسانيات؛ إذ نال درجة البكالوريوس المزدوجة في الكيمياء واللغة الإنجليزية من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) عام 1969، ثم حصل على الدكتوراه في تعليم العلوم من جامعة ماساتشوستس في أمهرست عام 1972.
هذا المزج بين التفكير العلمي والإنساني شكّل لاحقًا لبنة أساسية في مسيرته البحثية، حيث سعى إلى الجمع بين المنهج التجريبي الصارم وفهم التجربة الإنسانية في التعلم.

شغل ديّ خلال مسيرته الطويلة مناصب أكاديمية مرموقة، كان أبرزها أستاذية كرسي Timothy E. Wirth Professor in Learning Technologies في كلية الدراسات العليا بجامعة هارفارد. وبعد عقدين من العمل الأكاديمي هناك، أصبح عام 2022 زميلًا باحثًا أول في المؤسسة ذاتها، مواصلاً إشرافه على مشروعات بحثية في التقنيات الناشئة والتعليم الغامر.

رؤيته : التعلم تجربة يعيشها المتعلم

يرى ديّ أن التعليم الحقيقي لا يحدث في الفصول الدراسية فقط، بل في الخبرات التي يعيشها المتعلم داخل بيئة معرفية غنية ومحفّزة. ومن هنا انطلق نحو بناء مفهوم “التعلم الغامر” (Immersive Learning)، الذي يعد من أبرز إسهاماته النظرية والعملية في مجال تكنولوجيا التعليم.

في هذا النموذج، يُنظر إلى التكنولوجيا – سواء كانت واقعًا افتراضيًا (VR) أو واقعًا معززًا (AR) أو بيئة افتراضية متعددة المستخدمين (MUVEs) – على أنها أداة لصناعة التجربة، لا مجرد وسيلة عرض للمحتوى. فالتعلم الغامر بحسب ديّ، هو تجربة يعيشها المتعلم في بيئة تحاكي الواقع وتتيح له التفاعل، اتخاذ القرار، وملاحظة النتائج بنفسه، كما لو كان جزءًا من القصة أو الحدث.

مشاريعه الرائدة في التعلم الغامر (Immersive Learning)

لتحويل هذه الفلسفة إلى ممارسة، قاد ديّ عددًا من المشاريع البحثية المبتكرة التي أصبحت مراجع في أدبيات تكنولوجيا التعليم. ومن أبرزها:

مشروع River City

يُعد من أوائل النماذج التي استخدمت بيئة افتراضية لتعليم طلاب المدارس مهارات البحث العلمي وحل المشكلات. يعيش الطلاب داخل مدينة افتراضية تتعرض لوباء، ويُطلب منهم جمع الأدلة وتحليلها وفهم أسباب انتشار المرض.
أظهر المشروع كيف يمكن للغمر أن يحفّز التفكير العلمي ويعزز التعلم القائم على الاستقصاء عبر التجربة المباشرة.

مشروع EcoMUVE وEcoMOBILE

قدّم ديّ من خلالهما بيئات تعلم تفاعلية لتدريس النظم البيئية (Ecosystems).
في EcoMUVE يدخل الطلاب عالمًا افتراضيًا يحاكي نظامًا بيئيًا متكاملًا، بينما تتيح EcoMOBILE لهم استكشاف الواقع المعزز في مواقع بيئية حقيقية.

من خلال هذا الدمج بين العالمين الواقعي والافتراضي، طوّر ديّ مفهوم “التعلم الموقعي الغامر (Situated Immersive Learning)” الذي يجعل المفاهيم العلمية جزءًا من تجربة محسوسة وليست مجرد أفكار نظرية.

مشروع ScienceSpace

اهتم هذا المشروع بتدريس الفيزياء لطلاب المرحلة الثانوية باستخدام الواقع الافتراضي. ساعدت المحاكاة ثلاثية الأبعاد الطلاب على تصور المفاهيم المعقدة مثل القوى والمجالات، مما جعل التعلم الحسي والمجرد يتكاملان في بيئة واحدة.

سبب الاهتمام بالتعلم الغامر

في أبحاثه العديدة، أبرز ديّ جملة من المزايا التربوية للتعلم الغامر يمكن تلخيصها فيما يلي:

  1. التحفيز والدافعية: الانغماس في تجربة واقعية يحفّز المتعلمين على المشاركة النشطة، ويُشعل لديهم الرغبة في الاستكشاف والاكتشاف.
  2. الفهم العميق والنقل المعرفي: لأن المتعلم يختبر الموقف بنفسه، فهو لا يحفظ المعلومة فقط، بل يفهمها ويستطيع تطبيقها في مواقف جديدة.
  3. التفاعل الاجتماعي: البيئات الغامرة عادةً ما تُصمم لتكون تعاونية، مما يعزز مهارات التواصل والعمل الجماعي.
  4. اكتساب المهارات الضمنية: مثل مهارات اتخاذ القرار، التفكير النقدي، والقدرة على الملاحظة الدقيقة، وهي مهارات يصعب اكتسابها عبر الأساليب التقليدية.

بين النظرية والتطبيق: فلسفته في التعليم

يتميّز فكر كريستوفر ديّ بأنه لا يرى التكنولوجيا غاية في ذاتها، بل وسيلة لتجسيد مبادئ تربوية أعمق.
فهو يدعو إلى أن يكون التعلم الغامر جزءًا من منظومة متكاملة تجمع بين الخبرة، والمناقشة، والتحليل، والتأمل الذاتي.
ويرى أن الغمر الحقيقي لا يتحقق عبر المؤثرات البصرية وحدها، بل عندما يعيش المتعلم تجربة معرفية متكاملة تمتد من الفهم إلى الممارسة إلى التقييم.

كما طرح مفهوم “التعلم متعدد المناظير (Multiple Perspectives Learning)”، الذي يسمح للمتعلم بأن يرى الظاهرة من زوايا مختلفة، فيفهم العلاقات السببية والأنظمة المعقدة بشكل أعمق. هذا المفهوم شكّل الأساس التربوي لكثير من تطبيقات الواقع الافتراضي والواقع المعزز الحديثة.

مؤلفات وإسهامات فكرية

خلال مسيرته، ألّف ديّ وحرّر العديد من الكتب التي تُعد مراجع رئيسية في تكنولوجيا التعليم، من أبرزها:

  • Learning Engineering for Online Education (2019)
  • Virtual, Augmented, and Mixed Reality in Education
  • Teacher Learning in the Digital Age: Online Professional Development in STEM Education

كما شارك في صياغة الخطة الوطنية لتكنولوجيا التعليم في الولايات المتحدة (National Educational Technology Plan)، مما يعكس أثره في سياسات التعليم والتطوير المهني للمعلمين.

فضلا عن ما تقدم فله عديد من اللقاءات التلفزيونية المتواجدة على اليوتيوب والمحاضرات المصورة وتسجيلات البودكاست

عن د مصطفى جودت

أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك بجامعة الملك سعود ، وجامعة حلوان مدير تطوير المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود
error: Content is protected !!