جون سيلي براون John Seely Brown رائد التعليم الرقمي

إعداد: د. مصطفى جودت صالح

يُعَدّ جون سيلي براون (John Seely Brown) واحدًا من أبرز المفكرين في مجال تكنولوجيا التعليم، إذ جمع في مسيرته بين عمق الرؤية الأكاديمية وبعد النظر في استشراف مستقبل التعلم في العصر الرقمي. اشتهر بقدرته على الدمج بين النظرية والممارسة، وباهتمامه العميق بكيفية تفاعل الأفراد والمجتمعات مع المعرفة في بيئات تقنية متغيرة باستمرار.

جون سيلي براون (John Seely Brown)

ولد جون سيلي براون عام 1940 في الولايات المتحدة الأمريكية، وتخرج من جامعة براون (Brown University) قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه في علوم الحاسوب من جامعة ميشيغان (University of Michigan). ارتبط اسمه طويلاً بمركز الأبحاث الشهير Xerox PARC (Palo Alto Research Center)، حيث شغل منصب المدير التنفيذي للأبحاث، وكان له دور محوري في تطوير الابتكارات التي أرست أسس الحوسبة التفاعلية والتعليم الرقمي المبكر.

بعد تقاعده من Xerox، أصبح زميلًا باحثًا في جامعة جنوب كاليفورنيا (USC)، كما شغل مناصب أكاديمية واستشارية في عدد من المؤسسات التعليمية الرائدة، من بينها جامعة ستانفورد وجامعة هارفارد.

إسهاماته الفكرية في تكنولوجيا التعليم

تميّزت رؤية جون سيلي براون بالتركيز على الجانب الاجتماعي والثقافي للتعلم، إذ يرى أن التعلم لا يحدث فقط من خلال المحتوى أو الأدوات، بل من خلال الممارسات المشتركة والمجتمعات المعرفية. ومن أبرز إسهاماته تطوير مفهوم “مجتمعات الممارسة” (Communities of Practice) بالتعاون مع إتيين فينغر (Etienne Wenger)، وهو المفهوم الذي أصبح أساسًا لفهم التعلم المهني والتشاركي داخل المؤسسات التعليمية والتنظيمية.

يرى براون أن التعلم يحدث على نحو أكثر فاعلية عندما يكون غارقًا في سياق اجتماعي حيّ، حيث يتبادل الأفراد المعرفة ويطورون هوياتهم المهنية من خلال المشاركة الفعلية في النشاطات الواقعية. ولهذا، دعا إلى دمج بيئات التعلم الرسمية وغير الرسمية في منظومات التعليم الرقمي، مؤكدًا أن التكنولوجيا يجب أن تُصمَّم لدعم ثقافة المشاركة والتجريب والاكتشاف بدلاً من الاقتصار على نقل المعرفة.

كما أسهم في نشر فكرة “التعلم عبر الفعل” (Learning in Action)، وهي فلسفة تدعو إلى تحويل التعليم من عملية نقل معلومات إلى عملية تفاعلية ديناميكية تُبنى فيها المعرفة من خلال الممارسة والتجريب. وكان من أوائل المنادين بتبني التعلم القائم على المشاريع والابتكار الجماعي كوسيلتين لإعداد المتعلمين لعالم سريع التغير.

أبرز مؤلفاته

أثرى جون سيلي براون الأدبيات الأكاديمية في تكنولوجيا التعليم بعدد من الكتب والأبحاث التي أصبحت مراجع أساسية في هذا المجال، من أهمها:

  1. The Social Life of Information (الحياة الاجتماعية للمعلومات) – بالاشتراك مع بول دوغيدي (Paul Duguid)، وهو من أكثر كتبه تأثيرًا، حيث يناقش فيه كيف تتفاعل المعلومات مع السياقات الاجتماعية والمؤسسية.
  2. A New Culture of Learning (ثقافة جديدة للتعلم) – بالاشتراك مع دوغلاس توماس (Douglas Thomas)، وفيه يستعرض كيف يمكن للتكنولوجيا والثقافة الرقمية أن تخلقا بيئات تعلم أكثر انفتاحًا وابتكارًا.
  3. The Power of Pull (قوة الجذب) – حيث يقدم رؤية جديدة لإدارة المعرفة تقوم على بناء الشبكات والعلاقات بدلاً من الأنظمة الهرمية التقليدية.

رؤيته لمستقبل التعليم

يؤمن براون بأن مستقبل التعليم يكمن في التعلم مدى الحياة، حيث يصبح كل فرد جزءًا من منظومة تعلم مستمرة مدفوعة بالفضول والممارسة. وهو من أوائل من نادوا بتحويل المؤسسات التعليمية إلى منصات مفتوحة للتجريب والإبداع، لا تقتصر على الطلاب بل تمتد لتشمل المعلمين والمجتمع بأسره.

كما دعا إلى تبنّي الذكاء الجماعي (Collective Intelligence) كأحد محركات الابتكار التعليمي، مؤكداً أن المعرفة لم تعد حكرًا على الأفراد أو المؤسسات، بل أصبحت تُبنى من خلال التفاعل بين البشر والتقنية في بيئات مفتوحة ومرنة.

يمكن القول إن جون سيلي براون يمثل جسرًا بين النظرية التربوية التقليدية وعصر التعلم الرقمي المتصل. لقد قدّم للعالم تصورًا جديدًا للتعلم لا يقوم على التلقين، بل على المشاركة، والتفاعل، والابتكار المستمر. ومن خلال أعماله، فتح الباب أمام جيل جديد من الباحثين والممارسين لإعادة التفكير في طبيعة المعرفة والتعليم في زمن التقنية والذكاء الاصطناعي.

لقد جعل براون من “التعلم” عملية حية ومتجددة، ومن “المجتمع” بيئةً تربوية متكاملة، ومن “التكنولوجيا” أداةً لتحرير الفكر، لا لتقييده. ولهذا، لا يزال تأثيره ممتداً في كل بيئة تعليمية تسعى إلى بناء متعلمين فاعلين في عالم متصل ومتغير باستمرار.

عن د مصطفى جودت

أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك بجامعة الملك سعود ، وجامعة حلوان مدير تطوير المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود
error: Content is protected !!