إعداد: د. مصطفى جودت صالح

تعمل القوى العاملة في القرن الحادي والعشرين ضمن سياق مهني يتسم بدرجة عالية من التقلب والتعقيد، حيث تقلّص العمر الافتراضي للمهارات المهنية إلى نحو خمس سنوات، بل إلى أقل من ذلك في المجالات التقنية المتسارعة. وقد أفضى هذا الواقع إلى تراجع فاعلية نماذج التصميم التعليمي التقليدية التي تقوم على المقررات التعليمية الطويلة مثل الدورات واسعة الالتحاق MOOCs، والبرامج التدريبية المكثفة، ونقل المعرفة وفق منطق «الاستعداد المسبق للحاجة» (Just-in-case)، إذ لم تعد قادرة على مجاراة إيقاع التغير أو تلبية متطلبات الأداء الفوري أثناء الخدمة. ونتيجة لذلك، تواجه المؤسسات اليوم تحديًا مزدوجًا يتمثل في أزمة انتباه ناتجة عن تشظّي المعلومات وتدفقها المستمر، وأزمة ملاءمة تتمثل في تقادم المحتوى التدريبي بسرعة تفوق دورة إنتاجه.
وفي مواجهة هذه التحديات، برز اتجاهان متكاملان يشكّلان ملامح نموذج تعلّم جديد أثناء الخدمة: التعلم المصغّر أثناء الخدمة mLearning in the Flow of Work (mLIFOW) والتعلم الموجَّه بالذكاء الاصطناعي في سياق العمل(AI‑Driven Learning in Workflows) . حيث يقدّم التعلم المصغّر المعرفة في وحدات قصيرة، مركّزة، ومرتبطة مباشرة بمهمة أو مشكلة أداء آنية، بما ينسجم مع القيود المعرفية للمتعلمين ويتيح التعلم في لحظة الحاجة الفعلية ويقابله مصطلحين هامين؛ التعلم حسب الطلب Learning on demand والتعلم حسب الحاجة Learning in Needs. وفي المقابل، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساندة خلف الكواليس، بل أصبح محركًا ذكيًا قادرًا على تحليل سياق العمل، وتتبّع أداء المتعلم، وتقديم محتوى وتوصيات تعلم مخصّصة في الوقت والمكان المناسبين. ويقع عند تقاطع هذين الاتجاهين إطارٌ تربوي جديد، لا يُنظر فيه إلى التعلم بوصفه نشاطًا منفصلًا أو مرحلة زمنية مستقلة، بل كدعم معرفي ذكي ومصغّر، مدمج بسلاسة في سير العمل اليومي، ويهدف إلى تعزيز الأداء المهني المستمر وتحقيق التعلم أثناء الخدمة.
Learning on Demand (التعلّم حسب الطلب) : هو نمط تعلّم يتيح للمتعلّم الوصول إلى المحتوى التعليمي في أي وقت وبمبادرة ذاتية، استجابةً لرغبة أو حاجة عامة إلى التعلم، دون اشتراط ارتباط فوري بمهمة عمل محددة. يركّز هذا النمط على المرونة وإتاحة الموارد، حيث يختار المتعلم ما يتعلمه ومتى يتعلمه، غالبًا من مكتبات رقمية، أو منصات تعليمية، أو مستودعات معرفة. وهذا النوع من التعلم يكون اختياري عند الطلب و مناسب أكثر للمعارف العامة وتطوير المهارات المتوسطة والطويلة.
Learning in Needs (التعلّم عند الحاجة) : هو نمط تعلّم يتم في لحظة ظهور حاجة فعلية ناتجة عن مشكلة أداء أو متطلب مهني محدد، ويكون موجّهًا مباشرة لدعم إنجاز مهمة أو اتخاذ قرار أو حل مشكلة آنية في سياق العمل. يركّز هذا النمط على الملاءمة الفورية والأثر السريع على الأداء، وغالبًا ما يتخذ شكل دعم أداء أو تعلم مصغّر مدمج في سير العمل.
تطور مفاهيم التعلم وعلاقته بتطـور
الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته التعليمية
بدأت مفاهيم مثل التعلم المصغر والتعلم في سياق العمل والتعلم المدعم بالذكاء الاصطناعي كمفاهيم منفصلة لكن حين نزلت على أرض الواقع ومع التطورات التي شهدها الميدان التعليمي في السنوات الأخيرة وجدنا إرتباطا متزايدا بين تلك المفاهيم
تطور مفهوم التعلم المصغر وهيمنته
يُعدّ التعلم المصغّر (Microlearning) نهجًا تعليميًا تطوّر بصورة ملحوظة منذ ثورة المفاهيمية التربوية المبكرة في منتصف القرن العشرين، إلى أن أصبح اليوم أحد الاستراتيجيات الأساسية في التعليم الرقمي. فعلى الرغم من أن مناقشات مبكرة حول التعلم الجزئي ظهرت منذ ستينيات القرن الماضي في سياق دراسات منحنيات التعلم والاقتصاد التعليمي، فإن مصطلح التعلم المصغّر بدأ يكتسب حضورًا واضحًا في أدبيات التصميم التعليمي مطلع الألفية الجديدة، لا سيما في أعمال باحثين مثل هوغ وفريزن، الذين عرّفوه بوصفه تقديم وحدات تعليمية قصيرة ومركّزة تتلاءم مع عادات المتعلمين المعاصرين وأنماط انتباههم. وتجمع الأدبيات الحديثة على أن من سماته الجوهرية: القِصر، والتركيز على هدف تعلم واحد، وإمكانية التعلم الذاتي غير المتزامن، والمرونة، وتعدد الوسائط (مثل الفيديوهات والاختبارات القصيرة والإنفوجرافيك)، بما يسهم في خفض العبء المعرفي وتحسين الاحتفاظ بالمعلومة.

ويعكس التطور التاريخي للتعلم المصغّر تحولات أوسع في مجال تكنولوجيا التعليم. فقد مهّدت ممارسات مثل “التدريس المصغّر” (Microteaching) في ستينيات القرن الماضي — والتي اعتمدت على جلسات تعليمية قصيرة متكررة مع تغذية راجعة — الطريق أمام المفهوم المعاصر، رغم افتقارها آنذاك إلى قابلية التوسع والدعم المتعدد الوسائط الذي توفره التقنيات الرقمية الحديثة. ومع انتشار الإنترنت والأجهزة المحمولة، توسع نطاق التعلم المصغّر ليشمل التعليم العالي، مدفوعًا بأبحاث معرفية تشير إلى أن الوحدات التعليمية القصيرة تتوافق مع حدود الذاكرة العاملة وأنماط الانتباه لدى الإنسان. ولم يعد يُنظر إلى التعلم المصغّر بوصفه مجرد “تجزئة للمحتوى”، بل ككائنات تعلم مستقلة مدعومة بأسس تربوية، تعزز الاستقلالية والتنظيم الذاتي ودافعية المتعلم في البيئات التعليمية المدمجة والإلكترونية.
وقد أسهم الذكاء الاصطناعي في إحداث نقلة نوعية في التعلم المصغّر من خلال تعزيز التخصيص والتكيفية وقابلية التوسع. فالنماذج التصميمية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، مثل نماذج التصميم التعليمي المدمجة بالذكاء الاصطناعي، توظّف بيانات المتعلمين لتحسين تسلسل المحتوى وسرعة التعلم وأنماط التغذية الراجعة بصورة آنية، بما يلائم الفروق الفردية ويرفع من كفاءة نواتج التعلم مقارنة بالتصميمات التقليدية. كما يتيح الذكاء الاصطناعي توليد محتوى تعلم مصغّر بشكل شبه آلي، وتحليل البيانات التنبؤية لاكتشاف فجوات التعلم، وتقديم إرشاد ذكي يشبه أنظمة التدريس الذكية، ما يجعل تجربة التعلم المصغّر أكثر استجابة وفاعلية على مستوى الفرد.
يركز المقال الحالي على تطور مفهوم التعلم المصغر واقترانه بمفهومي التعلم في سياق العمل والذكاء الاصطناعي في التعليم في الخمس سنوات الأخيرة أي في الفترة من بداية العقد الحالي وحتى عام 2025. ففي أوائل عام 2010، كان غالباً ما يتم رفض التعلم المصغر باعتباره “تسطيحاً” للمناهج الدراسية. ومع ذلك، فقد أثبتت الدراسات الحديثة فعاليته التربوية عند تصميمه بشكل صحيح. تسلط مراجعة نطاقية لعام 2025 الضوء على أن التعلم المصغر، عندما يتماشى مع تصنيف بلوم، يؤثر بشكل كبير على النتائج المعرفية (الاحتفاظ، الاستدعاء)، والنتائج السلوكية (أداء المهام)، والنتائج الوجدانية (الدافعية، الكفاءة الذاتية).

تميز الأدبيات بين “التعلم المصغر جداً” (Bite-Sized Learning) الذي يعد جزءاً من تسلسل خطي منظم، و”التعلم المصغر” الحقيقي الذي غالباً ما يكون قائماً بذاته ويتم الوصول إليه عند الحاجة. كان تطور تكنولوجيا الهاتف المحمول محركاً حاسماً؛ حيث تظهر دراسات تعلم اللغة بمساعدة الهاتف المحمول (MALL) أن الجمع بين منصات الهاتف المحمول والمحتوى المصغر يمكن أن يفسر أكثر من 55% من التباين في كفاءة التعلم، ويرجع ذلك أساساً إلى إمكانية الوصول وتكرار المشاركة التي يسمح بها.
في الفترة بين 2010 و2020 تناولت عديد من الدراسات النقدية مفهوم التعلم المصغّر من عدة زوايا، وأبرزت قيودًا جوهرية تتجاوز فكرة تبسيط لتعلم.
أولاً، ركّزت عدة مراجعات على الافتقار إلى قوة منهجية واتساق في الأدلة التجريبية؛ فالكثير من البحوث المنشورة خلال تلك الفترة كانت وصفية أو اعتمدت تصميمات بسيطة بعينات صغيرة، مما حدّ من قدرتها على تقديم استنتاجات قوية حول فعالية التعلم المصغر microlearning عبر سياقات تعليمية مختلفة، لا سيما في التعليم الرسمي أو عند مقارنته بأساليب تعليمية شاملة. هذا النقص في التصميمات التجريبية المنضبطة يجعل من الصعب تعميم النتائج أو تحديد الخصائص المثلى لوحدات التعلم المصغّر.
ثانيًا، تناولت بعض الدراسات العمق المعرفي والتكامل البنيوي للمحتوى كمصدر نقد، حيث أشار الباحثون إلى أن تجزئة المحتوى إلى وحدات صغيرة قد تكون مناسبة للمهارات البسيطة أو الحقائق السطحية، لكنها قد تعيق فهم المفاهيم المعقدة والتفكير العميق إذا لم تُدمَج ضمن هيكل تعليمي واسع ومتماسك. كما لوحظ أن التعلم المصغر microlearning غالبًا يُستخدم بمعزل عن سياقات تعليمية أوسع، ما يؤدي إلى ارتباط ضعيف بين الوحدات القصيرة والمخرجات التعليمية المعقدة التي تتطلب بناء معرفي تدريجي عبر تجارب أطول.
أخيرًا، أشارت بعض الدراسات إلى تحديات عملية في التصميم والتنفيذ، مثل الحاجة إلى معيار واضح لتجزئة المحتوى، وضمان الترابط بين الوحدات، وإعادة التفكير في كيفية قياس نواتج التعلم في سياقات التعلم المصغر microlearning حين تغيب أدوات التقييم التقليدية. كما بُحثت مسألة انحياز النشر (publication bias)، حيث تميل الدراسات ذات النتائج الإيجابية إلى الظهور أكثر من تلك ذات النتائج السلبية أو غير الحاسمة، ما يخلق فهمًا غير متوازن لفعالية هذا الأسلوب التعليمي من منظور نقدي.
تؤكد الأبحاث الحالية أن تعريف التعلم المصغر قد تحول من كونه يعتمد بشكل أساسي على الوقت (مثل “فيديوهات أقل من 5 دقائق”) إلى الاعتماد على الوظيفة. يتم تعريفه من خلال دقة المحتوى والهدف التربوي—تحديداً هدف كحل مشكلة معينة أو سد فجوة معرفية محددة فوراً.
فالعلاقة بين التعلم المصغر والذكاء الاصطناعي أصبحت علاقة تكامل متنامية، إذ يسهم الذكاء الاصطناعي في معالجة تحدّيَيْن تقليديَيْن في هذا المجال: التخصيص الدقيق، وإدارة الخبرات على نطاق واسع. فأنظمة التوصية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تستطيع تحليل بيانات تفاعل المتعلمين، وسجل أدائهم، وتفضيلاتهم، من أجل اقتراح وحدات ميكروية ملائمة، وترتيبها بصورة تكيّفية، وتحسين فترات التكرار المتباعد لتعزيز الاحتفاظ طويل المدى بالمعلومات. كما يتيح الذكاء الاصطناعي التوليدي إنتاج محتوى ميكروي بسرعة وتحديثه باستمرار (مثل توليد تفسيرات، وأمثلة، وأسئلة بنائية في صيغ متعددة تناسب مستويات إتقان ولغات مختلفة)، في حين تمكّن تحليلات التعلم والنماذج التنبؤية أعضاء هيئة التدريس من متابعة التفاعل مع الأنشطة الميكروية والتدخل المبكر مع الطلبة المعرّضين للتعثر.
بزوغ مفهوم التعلم في سياق العمل
شهد مفهوم التعلّم في سياق العمل (Learning in the Flow of Work – LFOW) بزوغًا تدريجيًا مع التحولات العميقة التي طرأت على بيئات العمل منذ مطلع الألفية الثالثة، حيث لم يعد التعلم نشاطًا منفصلًا عن الممارسة المهنية، بل أصبح جزءًا مدمجًا في أداء المهام اليومية. وقد أسهمت نظريات التعلم السياقي والتعلم البنائي الاجتماعي، لا سيما أعمال Lave & Wenger حول مجتمعات الممارسة، في ترسيخ فكرة أن التعلم يحدث بصورة طبيعية أثناء العمل ومن خلال التفاعل مع المشكلات الواقعية والزملاء والخبراء، وليس فقط عبر برامج تدريب رسمية منفصلة ومع تسارع التطور المعرفي والتقني، باتت المؤسسات تبحث عن نماذج تعلم أكثر مرونة واستجابة لحاجات الأداء الفوري.
في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تعزز هذا التوجه مع ظهور أدبيات تؤكد على ضرورة تقليص الفجوة بين التعلم والأداء، مثل نموذج 5 Moments of Need لـ Gottfredson & Mosher، الذي يبرز أهمية توفير التعلم عند الحاجة، أثناء التطبيق، وليس فقط في مراحل الإعداد المسبق .

كما أشار Bersin إلى أن الموظفين لم يعودوا قادرين على تخصيص وقت طويل للتعلم الرسمي، مما دفع نحو نماذج تعلم خفيفة، سريعة، ومتصلة مباشرة بسياق العمل، تدعم اتخاذ القرار وحل المشكلات في اللحظة المناسبة . هنا بدأ مفهوم التعلم في سياق العمل يكتسب بعدًا استراتيجيًا في إدارة المعرفة وتنمية رأس المال البشري خاصة في الأدبيات المرتبطة بالتدريب أثناء العمل.
وفي هذا السياق، وجد التعلم المصغّر أرضية خصبة بوصفه أحد أكثر الأشكال توافقًا مع التعلم في سياق العمل، نظرًا لاعتماده على وحدات قصيرة، مركّزة، وموجهة نحو هدف أو مهمة محددة. وقد بينت دراسات متعددة أن دمج التعلم المصغر في بيئات العمل يسهم في تحسين الأداء وتقليل الانقطاع عن المهام الأساسية، شريطة أن يكون المحتوى مرتبطًا مباشرة بالممارسة المهنية. إلا أن التحول النوعي الأبرز ظهر مع توظيف الذكاء الاصطناعي، الذي أتاح تقديم تعلم مصغّر ذكي ومخصص، يعتمد على تحليل سياق العمل، وسلوك المستخدم، واحتياجاته اللحظية.
ويؤدي الربط بين التعلم في سياق العمل، والتعلم المصغّر، والذكاء الاصطناعي إلى نشوء منظومة تعلم تكيفية تدعم الأداء البشري بصورة غير مسبوقة. فالذكاء الاصطناعي يمكّن من اقتراح وحدات تعلم مصغّرة في الوقت المناسب، وداخل أدوات العمل نفسها، مثل أنظمة إدارة المشاريع أو منصات التعاون المؤسسي، محققًا بذلك انتقالًا من “التعلم عند الطلب” إلى “التعلم التنبؤي”. ويمثل هذا التكامل اتجاهًا محوريًا في مستقبل التعلم المهني، حيث يصبح التعلم جزءًا غير مرئي لكنه فاعل من تدفق العمل اليومي، مدعومًا بقدرات تحليلية وتنبؤية تعزز الكفاءة والاستدامة المعرفية في المؤسسات
بزوغ مفهوم التعلم الموجه بالذكاء الاصطناعي
شهد مفهوم التعلم الموجّه بالذكاء الاصطناعي (AI-Driven Learning) بزوغًا متسارعًا في العقد الأخير نتيجة التقاء عدة عوامل؛ أبرزها الانفجار في حجم البيانات التعليمية، والتقدم في تقنيات التعلم الآلي ومعالجة اللغة الطبيعية، والحاجة المتزايدة إلى نماذج تعلم أكثر مرونة وتكيفًا مع الفروق الفردية. على عكس أنماط التعليم الرقمي التقليدية التي تعتمد على مسارات ثابتة ومحتوى موحّد، يقوم التعلم الموجّه بالذكاء الاصطناعي على تحليل سلوك المتعلم وبيانات أدائه بصورة مستمرة، بما يسمح ببناء تجارب تعلم ديناميكية تتغير وفق احتياجات المتعلم الفعلية وسياقه المعرفي والزمني.
وقد أسهم هذا التحول في إعادة تعريف أدوار كل من المتعلم والمؤسسة التعليمية؛ إذ لم يعد المتعلم متلقيًا سلبيًا للمحتوى، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في منظومة تتكيف معه لحظيًا، من خلال توصية المحتوى، وضبط مستوى الصعوبة، وتقديم التغذية الراجعة الذكية. في المقابل، انتقلت المؤسسات من التركيز على إنتاج المحتوى إلى إدارة منظومات تعلم ذكية قادرة على التنبؤ بالتعثر، ودعم اتخاذ القرار الأكاديمي، وتحسين جودة المخرجات التعليمية استنادًا إلى الأدلة والبيانات، لا إلى الافتراضات العامة.
ويُنظر إلى بزوغ التعلم الموجّه بالذكاء الاصطناعي بوصفه خطوة تأسيسية نحو نماذج تعلم أكثر استدامة وارتباطًا بسوق العمل، حيث يدعم التعلم المستمر والتعلم في سياق الأداء الفعلي. ومع ذلك، فإن هذا التحول يثير تساؤلات منهجية وأخلاقية تتعلق بالحوكمة، وشفافية الخوارزميات، وحماية البيانات، ودور المعلم البشري. وعليه، فإن القيمة الحقيقية لهذا المفهوم لا تكمن في التقنية ذاتها، بل في كيفية توظيفها تربويًا ضمن إطار متوازن يجمع بين الذكاء الاصطناعي والحكم التربوي الإنساني.
على المستوى الأكاديمي انقسمت الأدبيات حول الذكاء الاصطناعي في التعليم إلى تيارين: الذكاء الاصطناعي كأداة أتمتة (التصحيح، الجدولة، توليد المحتوى) والذكاء الاصطناعي كأداة تعزيز (التدريس التكيفي، الملاحظات الشخصية، السقالات المعرفية).
التعزيز: تشير الأدبيات إلى دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز العمليات المعرفية. وجدت دراسة أجريت عام 2025 حول (فيديوهات تعلم مصغر مولدة بواسطة نماذج اللغة الكبيرة) أن المحتوى المولد بواسطة الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتفوق على التنسيقات التقليدية في المشاركة وكفاءة المهام دون زيادة الحمل المعرفي. هذا يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس فقط أسرع في إنشاء المحتوى؛ بل يمكن أن يكون أفضل في هيكلته للاستهلاك البشري.
الأتمتة: تسلط الدراسات الضوء على مكاسب الكفاءة للذكاء الاصطناعي. يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي تقليل وقت تطوير المحتوى بنسبة 65% ووقت التصحيح بنسبة 70%، مما يحرر المصممين التعليميين للتركيز على الاستراتيجيات عالية المستوى.
تنامي الاهتمام بمفاهيم البينية والمفاهيم المرتبطة :
أسهم الذكاء الاصطناعي بصورة جوهرية في تحويل مبدئي التعلم حسب الطلب (Learning on Demand) والتعلم حسب الحاجة (Learning in Needs) من شعارات تربوية إلى ممارسات تعليمية قابلة للتنفيذ والقياس. فمن خلال تحليل بيانات المتعلم وسلوكه التعليمي وسياق أدائه، تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي اقتراح محتوى تعليمي فوري ومحدد بدقة، يُقدَّم في اللحظة التي يطلبها المتعلم أو يحتاجها، سواء كانت مهارة قصيرة، تفسيرًا مفاهيميًا، أو توجيهًا إجرائيًا. هذا النمط يقلل الاعتماد على المسارات التعليمية الخطية، ويعزز التعلم المرن الذي يستجيب لسرعة المتعلم ومستواه وخلفيته المعرفية.
وعلى مستوى أعمق، يدعم الذكاء الاصطناعي الانتقال من التعلم العام إلى التعلم السياقي المرتبط بالحاجة الفعلية، عبر ربط المحتوى التعليمي بمتطلبات المهمة أو المشكلة القائمة. فبدلًا من تقديم كمٍّ كبير من المعرفة المسبقة، يتم توجيه المتعلم إلى وحدات تعلم مصغّرة، مدعومة بالتوصية الذكية والتغذية الراجعة التكيفية، بما يعزز الكفاءة ويزيد من قابلية نقل التعلم إلى الممارسة. وبهذا، يصبح التعلم عملية مستمرة ومندمجة في العمل والدراسة، قائمة على الاحتياج الحقيقي لا على الافتراض المسبق لما ينبغي تعلمه.
على جانب آخر مثل التعلم في سياق العمل (Learning in the Workflow) إطارًا تطبيقيًا فعالًا لتحقيق مبدئي التعلم حسب الطلب (Learning on Demand) والتعلم حسب الحاجة (Learning in Needs)، إذ ينطلق من فكرة أن التعلم الأكثر قيمة هو ذاك الذي يحدث أثناء أداء المهام الفعلية لا بمعزل عنها. ففي هذا السياق، يصل المتعلم إلى المعرفة أو المهارة المطلوبة في اللحظة التي يواجه فيها مشكلة أو تحديًا عمليًا، سواء عبر أدلة إجرائية سريعة، أو موارد تعلم مصغّرة، أو دعم معرفي فوري مرتبط بالمهمة. هذا النهج يقلل الفجوة بين التعلم والتطبيق، ويجعل التعلم استجابة مباشرة لطلب حقيقي نابع من واقع العمل.
أخيرا وليس آخرا، يُعد التعلم المصغر (Microlearning) أحد أكثر النماذج التعليمية اتساقًا مع مبدئي التعلم حسب الطلب (Learning on Demand) والتعلم حسب الحاجة (Learning in Needs)، نظرًا لاعتماده على وحدات تعلم قصيرة ومركّزة يمكن الوصول إليها في أي وقت. هذا النمط يتيح للمتعلم الحصول على معلومة محددة أو مهارة جزئية فور الحاجة إليها، دون الالتزام بمسار تعليمي طويل أو محتوى يتجاوز الهدف المباشر. وبهذا يتحول التعلم إلى استجابة فورية لطلب حقيقي، مدفوع بسؤال أو مشكلة أو مهمة قائمة، لا بمجرد حضور مقرر أو برنامج تدريبي كامل.
وعلى مستوى الاحتياج، يمكّن التعلم المصغر من مواءمة المحتوى التعليمي مع السياق الفعلي للمتعلم، سواء كان سياقًا أكاديميًا أو مهنيًا. فالوحدات المصغّرة تُصمَّم عادةً لمعالجة فجوة معرفية محددة أو أداء مهاري بعينه، ما يقلل من الحمل المعرفي ويزيد من قابلية التطبيق المباشر. كما يسمح هذا النموذج بتحديث المحتوى بسرعة، وإعادة استخدامه وفق احتياجات متنوعة، ليصبح التعلم عملية مرنة ومستمرة، قائمة على الاحتياج اللحظي لا على التخطيط المسبق الجامد
التقاء المفاهيم
تتلاقى مفاهيم التعلّم المصغّر (Microlearning) والذكاء الاصطناعي في التعليم والتعلّم في سياق العمل (Learning in the Flow of Work) عند هدف مشترك يتمثل في جعل التعلّم أكثر قربًا من الممارسة الفعلية وأكثر استجابة لحاجات المتعلم اللحظية. فالتعلّم المصغّر يقوم على تقديم وحدات قصيرة ومركّزة مرتبطة بهدف محدد، بينما ينطلق التعلّم في سياق العمل من مبدأ دمج التعلّم داخل بيئة الأداء نفسها، لا كنشاط منفصل عنها. ويأتي الذكاء الاصطناعي ليعمل كحلقة وصل ذكية بين المفهومين، من خلال تحليل السياق الوظيفي وسلوك المستخدم واقتراح محتوى تعلّمي مصغّر ملائم للحظة العمل، بما يقلل الفجوة بين المعرفة والتطبيق .
ومن أبرز نقاط الالتقاء بين هذه المفاهيم التركيز على التعلم عند الحاجة (Just-in-Time Learning). فالتعلّم المصغّر بطبيعته مناسب لهذا النمط، لأنه يقدّم معرفة أو مهارة محددة يمكن استيعابها وتطبيقها بسرعة. وعندما يُدمج بالذكاء الاصطناعي، يصبح هذا التعلم أكثر دقة وفعالية، إذ تستطيع الخوارزميات التنبؤ باحتياجات المتعلم استنادًا إلى مهامه الحالية أو أخطائه المتكررة أو أنماط أدائه، ومن ثم اقتراح وحدات تعلم مصغّرة داخل أدوات العمل نفسها، مثل أنظمة إدارة المشاريع أو منصات التعاون المؤسسي. هذا التكامل يدعم رؤية التعلّم كداعم للأداء وليس عبئًا إضافيًا عليه.
كما تلتقي المفاهيم الثلاثة في الانتقال من المحتوى العام إلى التعلم المخصص والسياقي. فالتعلم المصغّر وحده قد يتحول إلى محتوى مجزأ إذا لم يُبنَ ضمن إطار أوسع، إلا أن الذكاء الاصطناعي يعالج هذا القصور عبر ربط الوحدات المصغّرة بمسارات تعلم ديناميكية تتكيف مع مستوى المتعلم وخبرته وسياق عمله. وفي هذا الإطار، يصبح التعلّم في سياق العمل بيئة تطبيق طبيعية لهذه المسارات، حيث لا يُقاس النجاح بعدد الوحدات المستهلكة، بل بتحسن الأداء واتخاذ القرار في الممارسة المهنية الفعلية.
وأخيرًا، تشترك هذه المفاهيم في إعادة تعريف دور التعلم المؤسسي من التدريب الدوري إلى نظام دعم أداء ذكي ومستمر. فالتعلّم المصغّر يوفّر البنية، والتعلّم في سياق العمل يوفّر السياق، بينما يوفّر الذكاء الاصطناعي القدرة على التخصيص، والتنبؤ، والتحسين المستمر. ويشير عدد من الباحثين إلى أن هذا التقاطع يمثل أحد الاتجاهات المحورية لمستقبل التعلم المهني، حيث يصبح التعلم غير مرئي تقريبًا، لكنه حاضر في كل لحظة عمل، موجَّه بالبيانات، ومتكامل مع سير العمل اليومي .
ويمكن تلخيص نقاط الالتقاء بين المفاهيم الثلاث كالتالي:
- القدرة على التكيف والتنبؤ تتمثل نقطة الالتقاء الأولى والأكثر جوهرية في قدرة الذكاء الاصطناعي على تحويل التعلم المصغر من وحدات ثابتة إلى تجارب تكيفية عالية الدقة (Adaptive Microlearning). فبدلاً من تقديم محتوى موحد لجميع الموظفين، تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتحليل بيانات الأداء والفجوات المهارية للمتعلم، ومن ثم “توصية” أو “دفع” وحدات تعلم مصغر محددة (فيديو قصير، انفوجرافيك، اختبار سريع) تعالج احتياجه الفعلي بدقة. هذا التكامل يضمن أن التعلم لا يستهلك وقتاً طويلاً ويعزز من كفاءة الاحتفاظ بالمعلومة، حيث أثبتت الدراسات أن دمج التكيف الآلي مع المحتوى المجزأ يقلل من العبء المعرفي ويزيد من سرعة الإتقان .
- التعلم “في اللحظة المناسبة” في سياق العمل يعزز الذكاء الاصطناعي مفهوم “التعلم في سياق العمل” (Learning in the Flow of Work) الذي صاغه جوش بيرسين، من خلال دمج التعلم المصغر داخل أدوات العمل اليومية (مثل MS Teams أو Slack أو أنظمة إدارة العملاء). حيث تعمل بوتات المحادثة (Chatbots) والمساعدات الذكية كوسطاء؛ حيث يمكن للموظف الذي يواجه مشكلة تقنية أثناء عمله أن يسأل النظام، ليقوم الذكاء الاصطناعي فوراً بجلب “وحدة تعلم مصغر” (Micro-resource) تشرح الحل في دقيقتين دون الحاجة للخروج من بيئة العمل والدخول إلى نظام إدارة التعلم (LMS). هذا النهج يحول التعلم من حدث منفصل إلى دعم للأداء في الوقت الفعلي.
- التوليد الآلي للمحتوى حسب السياق مع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي(Generative AI)، تعمقت العلاقة بين هذه المفاهيم من خلال سرعة إنتاج المحتوى. يمكن للذكاء الاصطناعي الآن تحويل الأدلة التشغيلية الضخمة والوثائق الطويلة إلى وحدات تعلم مصغر جذابة وتفاعلية في ثوانٍ معدودة، مما يسهل تحديث المعرفة في بيئات العمل سريعة التغير. علاوة على ذلك، يفهم الذكاء الاصطناعي “السياق الدلالي” لعمل الموظف؛ فإذا كان الموظف يعمل على مهمة برمجية معينة، فإن النظام يقترح مقتطفات برمجية تعليمية ذات صلة مباشرة بالمشروع الحالي، مما يجسد أعلى درجات التخصيص السياقي .
- التحليلات المتقدمة وقياس العائد على الاستثمار أخيراً، تلتقي هذه المفاهيم في جانب القياس والتحليل (Learning Analytics). يوفر التعلم المصغر نقاط بيانات كثيرة ومتكررة نظراً لقصر مدته وتكرار استخدامه، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي في تحليل هذه البيانات الضخمة للربط بين استهلاك المحتوى وتحسن الأداء الوظيفي الفعلي. لا يكتفي النظام بقياس “الإتمام”، بل يقيس “التطبيق” في سياق العمل، مما يساعد المؤسسات على فهم المهارات التي تم اكتسابها فعلياً وكيف أثرت على الإنتاجية، وبالتالي توجيه استراتيجيات التدريب المستقبلية بناءً على بيانات واقعية وتنبؤات دقيقة .
المراجع
ًWikipedia. (2025, October 01). Microlearning – Wikipedia. Retrieved from https://en.wikipedia.org/wiki/Microlearning
Leong, K., Sung, A., Au, D., & Blanchard, C. (2020). A review of the trend of microlearning. Journal of Work-Applied Management.
Corbeil, R., & Corbeil, M. E. (2023, August 2). Microlearning: The “OG” or hot new trend? EDUCAUSE Review. https://er.educause.edu/articles/2023/8/microlearning-the-og-or-hot-new-trend EDUCAUSE Review
Sankaranarayanan, R., Leung, J., Abramenka-Lachheb, V., Seo, G., & Lachheb, A. (2022). Microlearning in Diverse Contexts: A Bibliometric Analysis. Techtrends, 67(2), 260. doi: 10.1007/s11528-022-00794-x https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC9557991/
Pramanick, D. (2025). Microlearning in Higher Education: The Future of Learning. Mitr Learning and Media Pvt Ltd – Content Technology & Innovation Company. Retrieved from https://www.mitrmedia.com/resources/blogs/the-rise-of-microlearning-why-higher-education-institutions-are-adopting-it
Corbeil, R., Tufan, D., & Corbeil, M. (2023). The effect of microlearning and multimedia design on knowledge and skills acquisition of students in e-courses. Issues in Information Systems, 24, 342–355. doi: 10.48009/1_iis_2023_129 ,
Zhang, H., Lee, I., & Ali, S. (2021). Adaptive Microlearning in the Era of AI: Enhancing Retention and Engagement. International Journal of Educational Technology in Higher Education. [from] Joshi, M. (2024). Adaptive Learning through Artificial Intelligence. International Journal on Integrated Education, 7, 41–43. doi: 10.2139/ssrn.4514887
Lequerica, J., & Hernandez, L. (2023). Generative AI and the Future of Instructional Design: Automating Micro-content Creation. Journal of Applied Instructional Design.
Almuqhim, S., & Berri, J. (2025). AI‐Driven Personalized Microlearning Framework for Enhanced E‐Learning. Computer Applications in Engineering Education, 33. doi: 10.1002/cae.70040
Bersin, J. (2018). A New Paradigm For Corporate Training: Learning In The Flow of Work. JOSH BERSIN. Retrieved from https://joshbersin.com/2018/06/a-new-paradigm-for-corporate-training-learning-in-the-flow-of-work
Gottfredson, C., & Mosher, B. (2014). Innovative performance support: Strategies and practices for learning in the workflow. McGraw-Hill Education.Retrieved from https://archive.org/details/innovativeperfor0000gott
Lave, J., & Wenger, E. (1991). Situated learning: Legitimate peripheral participation. Cambridge University Press. https://doi.org/10.1017/CBO9780511815355, متاح النص الكامل عبر شبكة الجامعات الامريكية وموقع أرشيف
بوابة تكنولوجيا التعليم أول بوابة عربية تهتم بتكنولوجيا التعليم والتعليم الإلكتروني منذ عام 2003


