مراجعة : د. مصطفى جودت صالح
العمل ليس من الكتب الحديثة لكنه من الأعمال المتميزة، أقتنيت نسختي الخاصة منه عام 2019 ، لكن حالت بعض الظروف الخاصة من عمل مراجعة له، ثم وقع أمامي عملين آخرين لنفس الكاتب ومن نفس السلسلة مما جعلني أرجع لهذا العمل وأتخذ قرار عمل مراجعة له حيث أنه من الأعمال القليلة الذي يبنى على الربط بين مجال علم النفس وتكنولوجيا التعليم، حيث جرت العادة أن نقوم نحن المتخصصون في تكنولوجيا التعليم بالاستشهاد والربط مع نظريات علم النفس، لكن الكتاب فعل العكس وبهذا يكون من الأدبيات النادرة التي ربطت علم النفس بالتكنولوجيا.
يعد كتاب “سيكولوجية الفصول الدراسية: التعلم الإلكتروني” John Woollard، الذي نشرته روتليدج في فبراير 2011، رؤية متطورة لعلم النفس التربوي في العصر الرقمي. ينظر إليه بصفته مرجعا نظريًا ودليلًا عمليًا خصوصا في فترة ظهوره، حيث ظهر هذا العمل في لحظة محورية كان فيها التعليم المعزز بالتكنولوجيا ينتقل من الأدبيات النظرية إلى الممارسة التطبيقية في الميدان التعليمي. يقدم المؤلف، وهو محاضر في تعليم تكنولوجيا المعلومات بجامعة ساوثهامبتون وذو خبرة واسعة في التعليم الابتدائي والثانوي، رؤية علمية وعملية شاملة لسيكولوجية التعلم الإلكتروني.
كما يعالج الكتاب فجوة حرجة في الأدبيات التربوية من خلال توفير فهم أساسي لكيفية تطبيق المبادئ النفسية على بيئات التعلم الإلكتروني على وجه التحديد. يمثل هذا العمل الذي يقع في 160 صفحة مقدمة للممارسين الجدد في التعلم الإلكتروني وموردًا للمعلمين ذوي الخبرة الذين يسعون إلى تعميق فهمهم للأبعاد النفسية للتعليم المعزز بالتكنولوجيا، وهو ما ذكره المؤلف في مقدمته.
الدكتور جون وولارد (Dr John Woollard, PhD, MA(Ed)) هو زميل تدريس أول في تعليم علوم الحاسب في كلية التعليم بجامعة ساوثهامبتون. يتمتع بخبرة واسعة في تدريب المعلمين والإشراف على طلاب الدكتوراه والماجستير ومشاريع التخرج الجامعية، كما يشارك في لجنة أخلاقيات الكلية ومراجعة طلبات الأبحاث. تركز أبحاثه على سيكولوجية التعليم، والتفكير الحاسوبي، وتدريس البرمجة، والتعليم الإلكتروني، واستراتيجيات التقييم. كما شارك في العديد من المبادرات الوطنية لتطوير تعليم الحوسبة، وله إسهامات بارزة في تطوير مناهج علوم الحاسب وتدريب المعلمين في المملكة المتحدة.
الأسس النظرية التي قام عليها العمل
يرتكز عمل Woollard على ثلاثة أطر نظرية أساسية تشكل أساس علم النفس التربوي في السياقات الرقمية. أولًا، يفحص الكتاب بشكل مكثف السلوكية، المعرفية، والبنائية كما تنطبق على بيئات التعلم الإلكتروني. يوضح المؤلف كيف تتطلب نظريات التعلم التقليدية هذه إعادة تفسير عند تطبيقها على التعليم بوساطة التكنولوجيا، مجادلًا بأن البيئات الرقمية تخلق ظروفًا فريدة للتعلم قد لا يتم استيعابها بالكامل بواسطة المناهج النظرية التقليدية.
يعد استكشاف Woollard لـعلم التربية الرقمي (cybergogy) – وهو مصطلح يستخدمه لوصف مبادئ وممارسات التدريس والتعلم على وجه التحديد ضمن البيئات القائمة على الكمبيوتر – أمرًا محوريًا في إسهامه النظري. على عكس الأساليب التقليدية في علم أصول التدريس (pedagogy) (المتمحورة حول الطفل) أو علم تعليم الكبار (andragogy) (المتمحورة حول البالغين)، يركز علم التربية الرقمي على الخصائص الفريدة للتعلم التي تحدث عندما يتفاعل الطلاب مع التقنيات الرقمية، خاصة في البيئات الافتراضية الغامرة.
بيئات وتقنيات التعلم الرئيسية التي يتناولها
يقدم الكتاب تغطية شاملة لأساليب التعلم الرقمية المختلفة التي كانت ناشئة أو راسخة بحلول عام 2011. حيث تحظى بيئات التعلم الافتراضية (VLEs) باهتمام كبير كمنصات تتيح تجارب تعلم منظمة ومحمية بكلمة مرور. يفحص Woollard كيف تختلف هذه البيئات عن الفصول الدراسية التقليدية من حيث استقلالية المتعلم، وأنماط التفاعل، وبناء المعرفة.
كما تبرز الشبكات الاجتماعية والتعلم التعاوني بشكل كبير في جميع أنحاء الكتاب، مما يعكس الأهمية المتزايدة لتقنيات الويب 2.0 في السياقات التعليمية. يستكشف المؤلف كيف يمكن للمنصات التي تتيح التفاعل الاجتماعي أن تدعم بناء المعرفة التعاوني بينما تقدم أيضًا تحديات فريدة للمعلمين والمتعلمين.
يتناول الكتاب أيضًا التقنيات الناشئة بما في ذلك الصور الرمزية (avatars) والعوالم الافتراضية، ويفحص تطبيقاتها التعليمية المحتملة والآثار النفسية. يوضح هذا المنظور المستقبلي إدراك وولارد لاتجاهات التكنولوجيا التي ستصبح ذات أهمية متزايدة في السنوات اللاحقة.
الأبعاد النفسية للتعلم الإلكتروني
يخصص Woollard اهتمامًا كبيرًا للجوانب النفسية التي تميز التعلم الإلكتروني عن التعليم التقليدي. يفحص العمل التحفيز والمشاركة في البيئات الرقمية، ويستكشف كيف يمكن للتكنولوجيا أن تعزز وتحبط دوافع الطلاب. يناقش المؤلف مفاهيم مثل فورية الاستجابة، والمشاركة العاطفية، والمشاركة المعرفية كما تتجلى في التعلم باستخدام التكنولوجيا.
تحظى الهوية والتمثيل الذاتي في الفضاءات الرقمية بمعالجة مبتكرة من خلال مناقشة المؤلف لـ “الهوية الذاتية، والصورة الرمزية، والشخصية”. يمثل هذا الاستكشاف لكيفية بناء المتعلمين لهويتهم وإسقاطها في البيئات الافتراضية أحد أبرز إسهامات الكتاب الجديدة في أدبيات علم النفس التربوي.
إسهامات الكتاب في المجال
دمج علم النفس والتكنولوجيا
يتمثل إسهام Woollard الأساسي في دمجه المنهجي للمبادئ النفسية الراسخة مع التطبيقات التكنولوجية الناشئة. فبدلاً من التعامل مع التكنولوجيا كمجرد سيلة اتصال وتوصيل المحتوى، يضع الكتاب الأدوات الرقمية كعوامل أساسية لتشكيل تجربة التعلم التي تتطلب فهمًا نفسيًا مميزًا.
كما يتناول الكتاب لـعلم التربية الرقمي كنهج تربوي متميز مما يشكل إسهامًا نظريًا كبيرًا في فترة ظهور العمل. فمن خلال توضيح علم التربية الرقمي على أنه أكثر من مجرد “علم أصول تدريس مع أجهزة الكمبيوتر”، يوفر Woollard للمعلمين إطارًا لفهم الديناميكيات النفسية الفريدة لبيئات التعلم الرقمية.
التطبيقات العملية ودراسات الحالة
يتضمن وولارد في جميع أنحاء العمل دراسات حالة توضيحية وقصصًا قصيرة توضح التطبيق العملي للمبادئ النفسية في سياقات التعلم الإلكتروني. تسد هذه الأمثلة الفجوة بين الفهم النظري والتطبيق في الفصول الدراسية، مما يجعل الكتاب ذا قيمة للممارسين التربويين، وأن كان الكاتب أعتمد في الأغلب الأعم على تجارب شخصية وخبرات ذاتية.
كما يوفر استكشاف الكتاب لـمناهج التعلم المدمج رؤى مهمة حول كيفية الجمع الفعال بين التعليم التقليدي والرقمي. كان هذا الإسهام في وقته بالنظر إلى التبني المتزايد لنماذج التعلم الهجين في المؤسسات التعليمية.
الأهمية المعاصرة والسلامة الإلكترونية
يظهر Woollard وعيًا استباقيًا بالتحديات الناشئة في التعليم الرقمي من خلال معالجته للسلامة الإلكترونية والتنمر السيبراني. حيث تعكس مناقشته للممارسات الآمنة في بيئات التعلم الافتراضية واستراتيجيات معالجة التحرش عبر الإنترنت فهمًا بأن الرفاهية النفسية يجب أن تكون محورية لتصميم التعلم الإلكتروني.
ويظهر اهتمام الكتاب بقضايا العدالة الاجتماعية في الوصول إلى التكنولوجيا وتنفيذها إدراك وولارد بأن سيكولوجية التعلم الإلكتروني يجب أن تعالج مخاوف المساواة. يضيف هذا المنظور أبعادًا أخلاقية مهمة للمناقشات التقنية والتربوية.
موضوعات معاصرة تناولها العمل
رغم أن العمل من 2011 ، إلا أنه تناول عددا من التطورات المعاصرة في تكنولوجيا التعليم ولعل هذا ما شجع على عمل مراجعة له. لقد توقع الكاتب الاهتمام بالتعلم الاجتماعي في البيئات الرقمية ونمو وسائل التواصل الاجتماعي في التعليم. وتوافق مناقشة الكتاب لالتخصيص ونهج التعلم المتمحور حول المتعلم مع الاتجاهات نحو أنظمة التعلم التكيفية التي ستبرز لاحقًا في العقد.
كما كان العمل سباقا في التركيز على العوالم الافتراضية والبيئات الغامرة بشكل خاص بالنظر إلى النمو اللاحق لتطبيقات الواقع الافتراضي والواقع المعزز في التعليم. ما يدل على إدراك الكاتب المبكر للإمكانات التعليمية لهذه التقنيات فهمًا متطورًا للاتجاهات التكنولوجية.
نقاط القوة والضعف
نقاط القوة
المعالجة شامل: يغطي الكتاب بنجاح مجموعة رائعة من الموضوعات التكنولوجية المستقبلية في التعليم الإلكتروني وربطها بعلم النفس، مما يوفر للقراء أساسًا واسعًا في سيكولوجية التعلم الإلكتروني دون تفاصيل مفرطة فالكتاب كاملا يقع في 160 صفحة. ويتبع العمل نهج منظم ينتقل من البحث إلى النظرية إلى علم أصول التدريس والاستراتيجية تطورًا منطقيًا .
قابلية التطبيق العملي: تتجلى خلفية Woollard كباحث وممارس للتدريس والخلفية التقنية في توازن الكتاب بين العمق النظري والفائدة العملية. إن تضمين استراتيجيات تدريس محددة وإرشادات التنفيذ يجعل العمل ذا قيمة للمربين الذين يسعون إلى التطبيق الفوري للمبادئ النفسية.
رؤية مستقبلية تنبؤية: تظهر معالجة الكتاب للتقنيات الناشئة مثل العوالم الافتراضية والتعلم القائم على الصور الرمزية بصيرة ملحوظة. حيث أصبحت عديد من الاتجاهات التي حددها Woollard في عام 2011 بالفعل محورية في ممارسة التعلم الإلكتروني المعاصرة.
التكامل بين تخصصات متعددة: يربط العمل بنجاح بين علم النفس التربوي وتكنولوجيا التعليم و علم التدريس، مما يخلق روابط تفيد الممارسين عبر مجالات متعددة.
نقاط الضعف
العمل كأي نتاج بشري به عدد من نقاط الضعف بعضها في المعالجة الموضوعية وجزء آخر منها مرتبط بالجوانب الشكلية ومن ذلك:
محدودية الاستشهاد بالدراسات التجريبية: رغم استشهاد الكاتب بعدد من البحوث الأكاديمية لتأييد وجهات نظره أو بناء نماذج الممارسة التطبيقية إلا أنه في المجمل افتقر العمل للاستشهاد بعدد كاف من الدراسات التجريبية التي يفترض أن يبنى على نتائجها العمل خاصة في جانبه التطبيقي.
محدودية الامثلة التكنولوجية: لقد حد تركيز الكتاب على تقنيات ومنصات محددة – كانت حديثة في عام 2011 – من أهميته على المدى الطويل، فأغلب الأمثلة الخاصة بالخدمات والمنصات لم تعد متوافرة الآن، وفي حدود علمي لم يقم الكاتب بعمل طبعات حديثة من العمل. على جانب آخر تظل المبادئ النفسية الواردة في العمل صالحة للاستشهاد البحثي.
القاعدة النظرية التي أستند إليها في مفاهيمه الحديثة: قدم العمل – كما استعرضنا سابقا- مفهوم علم التربية الرقمي cybergogy والذي قد يكون مثيرا للاهتمام، لكن الكتاب لم يقدم قاعدة نظرية كافية لمناقشة هدا المفهوم والاستناد على خلفية بحثية ومراجعة أدبية كافية. خصاة فيما يتصل بالتمييز بين علم التربية الرقمي cybergogy وعلم أصول التدريس المعزز بالتكنولوجيا بTechnology-Enhanced Pedagogy شكل أوضح مع أدلة تجريبية داعمة خصوصا وأن في هذه الفترة ظهرت عدة نظريات ودراسات رائدة تناولت توظيف التكنولوجيا في التعليم.
التقييم والتقويم: تناول الكتاب موضوع التقويم الإلكتروني لكنه قدم تغطية محدودة لاستراتيجيات التقييم في ببيئات التعلم الإلكتروني. ونظرًا لأهمية التقييم في علم النفس التربوي، فإن الموضوع كان يحتاج مزيدا من التغطية.
الاخراج الفقير للعمل: لعل من أبرز نقاط الضعف والتي أخرتني شخصيا عن إتمام مراجعته هو صعوبة قراءة النسخة المطبوعة والتي ضحى الناشر بحجم الخط والمسافات بين الأسطر مقابل تقليل عدد الصفحات وبالتالي خفض التكلفة، فالنسخة الورقية صعبة القراءة جدا فقيرة للإنفوجرافيك والرسومات التوضيحية – رسومات غاية في البساطة – ، وقد حاولت طلب نسخة إلكترونية من الكاتب عبر Research Gate ولم تتم موافقته إلى الآن مما أضطرني لإتمام القراءة للنسخة الورقية رغم صعوبتها.

كلمة أخيرة
يمثل كتاب “سيكولوجية الفصول الدراسية: التعلم الإلكتروني” إسهامًا قيمًا في أدبيات علم النفس التربوي، حيث يربط بنجاح الفهم النظري والتطبيق العملي في بيئات التعلم الرقمية. يوفر عمل وولارد للمربين أسسًا نفسية لفهم كيفية توظيف التكنولوجيا في عمليات التعليم والتعلم.
وتكمن أبرز نقاط قوة الكتاب في معالجته الشاملة للمبادئ النفسية وربطها بسياقات التعلم الإلكتروني، بدلاً من مجرد تكييف علم النفس التربوي التقليدي مع سياق البيئات والوسائل الرقمية. إن تقديم علم التربية الرقمي كإطار تربوي متميز، رغم ضعف الجانب النظري، قدم مدخلا مفيدا لفهم الجوانب الفريدة للتعلم بمساعدة التكنولوجيا.
بالنسبة للممارسين الذين يسعون إلى فهم الأسس النفسية للتعلم الإلكتروني، يقدم العمل د مقدمة ميسرة وشاملة توازن بين الجانب النظري والفائدة العملية. حيث يركز الكتاب على مشاركة المتعلم وتكوين الهوية وبيئات التعلم الآمنة إرشادات أساسية للمعلمين الذين يتعاملون مع تعقيدات التعليم الرقمي.
مع استمرار تطور تكنولوجيا التعليم، تظل المبادئ النفسية الموضحة في هذا العمل أساسية لتصميم وتنفيذ التعلم الإلكتروني الفعال. وبالتالي يعتبر كتاب “سيكولوجية الفصول الدراسية: التعلم الإلكتروني” إسهامًا مبكرًا مهمًا في مجال لا يزال يتطور ويتوسع، ويزود القراء بالمعرفة الأساسية لفهم تقاطع علم النفس والتكنولوجيا في السياقات التعليمية.