
لقد تطور دور متخصص تكنولوجيا التعليم بشكل جذري خلال العقد الماضي. لم يعد هذا الدور يقتصر على تقديم الدعم التقني أو إدارة أنظمة التعلم، بل أصبح دورًا استراتيجيًا يقع في قلب العملية التعليمية الحديثة. متخصص تكنولوجيا التعليم اليوم هو شريك تعليمي، ومصمم للتجارب التعليمية، وقائد للتغيير، ومدافع عن الممارسات الأخلاقية والشمولية في الفضاء الرقمي. هذا التحول العميق يتطلب مجموعة من الكفاءات التي تتجاوز المعرفة التقنية البحتة لتشمل مهارات ناعمة (Soft Skills) متقدمة تمكّنه من بناء الجسور بين الإمكانيات التكنولوجية، والنظريات التربوية، والاحتياجات الإنسانية للمتعلمين والمعلمين على حد سواء.
استلهامًا من إطار المهارات الرقمية الناعمة للمُعلمين والطلاب (D2S) الذي طوره تحالف جامعات Ulysseus الأوروبية بتمويل من برنامج Erasmus+ والذي تم استعراضه ضمن المقال السابق ،ومن الإطار الأوروبي للكفاءة الرقمية للمعلمين في عصر الذكاء الاصطناعي DigCampEDU، يقدم هذا المقال إطارًا مقترحا يستهدف متخصص تكنولوجيا التعليم على وجه التحديد. يهدف هذا الإطار إلى تحديد المهارات الرقمية الناعمة التي تسمح لاخصائيي تكنولوجيا التعليم ليس فقط بتنفيذ الحلول التقنية، بل بقيادة الابتكار التربوي بفاعلية.
مفهوم المهارات مقابل الكفاءات: تأصيل المفهوم
قبل الخوض في تفاصيل الإطار، من الضروري التمييز بين مصطلحي “المهارة” و”الكفاءة”. المهارة، كما يعرفها قاموس Cedefop التابع للمفوضية الأوروبية (2008)، هي “القدرة على أداء المهام وحل المشكلات”. أما الكفاءة، فهي مفهوم أوسع وأشمل. وفقًا لمشروع DeSeCo التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، “الكفاءة هي أكثر من مجرد معرفة أو مهارة. إنها تنطوي على القدرة على تلبية المتطلبات المعقدة، من خلال استخلاص وتعبئة الموارد النفسية والاجتماعية (بما في ذلك المهارات والمواقف) في سياق معين” (Rychen & Salganik, 2003, p. 4).
بعبارة أخرى، قد يمتلك المتخصص مهارة استخدام أداة تأليف محتوى تعليمي رقمي، لكن كفاءته تظهر في قدرته على توظيف هذه المهارة، مع معرفته بنظريات التصميم التعليمي، وفهمه العميق لطبيعة واحتياجات المتعلمين، لإنشاء تجربة تعليمية فعالة وجذابة. لذلك، يركز هذا الإطار على تنمية الكفاءات، التي تشمل المهارات والمعارف والمواقف اللازمة للنجاح في الدور الفريد لاخصائي تكنولوجيا التعليم.
تعريف المهارات الرقمية الناعمة لأخصائيي تكنولوجيا التعليم (Definition of Digital Soft Skills for EdTech Specialists)
تُعرف المهارة بأنها “قدرة مكتسبة ومحددة يحتاجها الفرد لأداء مهمة معينة بشكل جيد”. أما المهارة الناعمة، فهي “مهارة غير تقنية أقل ارتباطًا بالمهن المحددة”. في سياق هذا الإطار، تُعرّف المهارات الرقمية الناعمة لأخصائيي تكنولوجيا التعليم على أنها: “مجموعة من القدرات غير التقنية، الاجتماعية، العاطفية، والشخصية، المتأثرة بشكل مباشر وغير مباشر باستخدام التقنيات الرقمية، بما في ذلك أدوات الذكاء الاصطناعي وبيئات التعلم الذكية، والتي تمكن أخصائيي تكنولوجيا التعليم من تصميم، تنفيذ، إدارة، وتقييم حلول تعليمية رقمية فعالة، إنسانية، ومستدامة، مع التركيز على التفاعل البشري، والتعاون، والتفكير النقدي، والإبداع في سياق تعليمي متطور.”
يُقر هذا التعريف بالبعدين الرئيسيين للمهارات الرقمية:
- البعد التكنولوجي (التقني): يرتبط باستخدام التكنولوجيا ويشمل مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التقليدية.
- البعد “الناعم”: يرتبط بالتأثيرات الاجتماعية والعاطفية والشخصية لاستخدام التكنولوجيا (سواء بشكل مستقل أو بالتعاون مع الآخرين).
يركز هذا الإطار على البعد الثاني، مع الإقرار بأن التمييز بين البعدين ليس دائمًا واضحًا.
الغرض العام من هذا الإطار
- تعزيز المهارات الرقمية الناعمة لأخصائيي تكنولوجيا التعليم: لمواكبة التطورات السريعة في المشهد التعليمي الرقمي، وخاصة مع تكامل الذكاء الاصطناعي وبيئات التعلم الذكية.
- توفير أساس لتقييم الذات وتطوير البرامج التدريبية: لتمكين أخصائيي تكنولوجيا التعليم من تقييم كفاءاتهم وتحديد مجالات التحسين.
- دعم تصميم بيئات تعلم ذكية تتمحور حول الإنسان: من خلال التركيز على الجوانب الاجتماعية والعاطفية والتفاعلية لاستخدام التكنولوجيا في التعليم.
هيكل إطار الكفاءات
على غرار نموذج D2S، يعتمد هذا الإطار على أربعة محاور أساسية مترابطة، محاطة بكفاءات أوسع ومهيمنة. تمثل هذه المحاور الأربعة مجالات العمل والحالات الذهنية التي يجب على متخصص تكنولوجيا التعليم التنقل بينها باستمرار.
- تطوير الذات (الممارس المتأمل)
- التفاعل مع الآخرين (الشريك المتعاون)
- التصرف في الحاضر (المُحلل الرشيق للمشكلات)
- صناعة المستقبل (المبتكر الاستراتيجي)
تحيط بهذه المحاور ثلاث كفاءات شاملة تعتبر ضرورية للنجاح في أي بيئة تعليمية حديثة: التعاطف متعدد الثقافات، الممارسة التأملية، والتفكير المرن في التعلم. وأخيرًا، يغلف الإطار بأكمله كفاءة عليا ونهائية هي التطوير المهني المستمر.
المحور الأول: تطوير الذات (الممارس المتأمل)
يركز هذا المحور على النمو الشخصي والمهني المستمر للمتخصص نفسه، فهو لا يستطيع أن يقود الآخرين نحو التميز الرقمي ما لم يكن هو نفسه مثالاً يُحتذى به في التعلم والتأمل.
- طلاقة التعليمية الرقمية (Digital Pedagogy Fluency): تتجاوز هذه الكفاءة مجرد “المعرفة الرقمية” لتصل إلى مستوى الطلاقة. لا يكفي معرفة كيف تعمل الأداة، بل الأهم هو فهم لماذا نستخدمها، ومتى تكون مناسبة، وكيف تتكامل مع النظريات التربوية الراسخة. يتطلب ذلك فهمًا عميقًا لأطر مثل TPACK (المعرفة التكنولوجية التربوية بالمحتوى)، الذي يؤكد على التقاطع بين المعرفة بالتكنولوجيا، والتعليم ، والمحتوى (Koehler & Mishra, 2009)، بالإضافة إلى نماذج التصميم التعليمي مثل ADDIE ونموذج مجتمع البحث (Community of Inquiry) الذي يركز على بناء الحضور الاجتماعي والمعرفي والتعليمي في بيئات التعلم عبر الإنترنت (Garrison, Anderson, & Archer, 2000). كما تتوسع هذه الكفاءة الآن لتشمل “تربويات الذكاء الاصطناعي”. حيث لم يعد كافياً فهم نظريات التعلم التقليدية، بل يجب على المتخصص فهم كيف يمكن للأنظمة التكيفية (Adaptive Systems) أن تخصص مسارات التعلم، وكيف يمكن لتحليلات التعلم (Learning Analytics) أن تقدم رؤى حول سلوك المتعلمين، وما هي الآثار التربوية لاستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في عمليات التقييم والإبداع.
- االهوية الرقمية الواعية والشبكة المهنية (Conscious Digital Identity & Network): يقصد الهوية الرقمية الواعية Conscious Digital Identity الوعي بالبصمة الرقمية الشخصية والمهنية ، والقدرة على بناء وإدارة سمعة رقمية إيجابية عبر منصات مختلفة، بما في ذلك التواجد الفعال في المجتمعات المهنية المتخصصة في تكنولوجيا التعليمعلى غرار بناء “الهوية الرقمية” ، يجب على المتخصص بناء وإدارة هوية مهنية رقمية إيجابية ومؤثرة. يتضمن ذلك المشاركة الفعالة في شبكات التعلم المهنية (PLNs) على منصات مثل LinkedIn و X (Twitter سابقًا)، ومشاركة الخبرات، والمساهمة في الحوارات المهنية، وبناء سمعة كخبير موثوق ومورد معرفي للمجتمع التعليمي الأوسع.
- الرفاهية والصمود الرقمي (Digital Wellbeing & Resilience): يقصد بها فهم وتبني تدابير لضمان الرفاهية الشخصية والمهنية في البيئة الرقمية ، وتتبع استخدام التكنولوجيا الشخصي ، والعناية بالصحة في بيئة رقمية مكثفة ، وكذلك فهم تحديات ومخاطر الاعتماد المفرط على الأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعي (مثل الإرهاق الرقمي أو التحيز الخوارزمي)، فإن طبيعة العمل في مجال تكنولوجيا التعليم غالبًا ما تكون كثيرة المتطلبات وتتميز بسرعة التغيير والضغوط العالية. بما يتطلب القدرة على إدارة عبء العمل الرقمي، وتجنب الإرهاق، والحفاظ على توازن صحي بين الحياة المهنية والشخصية. الأهم من ذلك، هو أن يكون المتخصص نموذجًا يحتذى به في ممارسات الرفاهية الرقمية، وتقديم النصح والإرشاد للمعلمين والطلاب حول كيفية الحفاظ على صحتهم في بيئة رقمية متزايدة التعقيد. ويضيف الذكاء الاصطناعي تحديات جديدة للرفاهية، مثل “قلق الأتمتة” أو الإرهاق الناتج عن الحاجة المستمرة لتعلم أدوات جديدة. يجب أن يكون المتخصص قادراً على التعامل مع هذه الضغوط وتقديم النصح للمعلمين والطلاب حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لا كمصدر للضغط.
- محو الأمية الرقمية المتقدمة (Advanced Digital Literacy): تتجاوز مجرد معرفة الأدوات لتشمل الفهم العميق لكيفية عمل التقنيات، والقدرة على تقييم المعلومات الرقمية بشكل نقدي، وفهم الحقوق والمسؤوليات المتعلقة بالبيانات والموارد المفتوحة في سياق الذكاء الاصطناعي. بالنسبة لأخصائي تكنولوجيا التعليم، هذا يعني القدرة على تحليل الأدوات التعليمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وفهم خوارزمياتها الأساسية، وتقييم مدى موثوقية المحتوى الناتج عنها
المحور الثاني: التفاعل مع الآخرين (الشريك المتعاون Collaborating Partner)
يقع جوهر عمل متخصص تكنولوجيا التعليم في تفاعله مع الآخرين. هذه الكفاءات تحدد مدى فعاليته في بناء العلاقات وقيادة التغيير من خلال التعاون.
- التواصل والتعاطف (Communication and Empathy): هذه هي الكفاءة المحورية. يجب أن يكون المتخصص قادرًا على الاستماع بفعالية لفهم احتياجات ومخاوف وقدرات المعلمين المتفاوتة. يتطلب ذلك تكييف لغة الخطاب وتجنب المصطلحات التقنية المعقدة ، وتقديم الدعم بصبر وتعاطف، وبناء علاقات ثقة تجعل المعلمين يشعرون بالأمان عند تجربة تقنيات وأساليب جديدة. مثلا؛ عند مناقشة موضوع الذكاء الاصطناعي في التدريس. سيواجه اخصائي تكنولوجيا التعليم طيفاً واسعاً من ردود الفعل من المعلمين، تتراوح بين الحماس المفرط والخوف العميق من التأثير على النزاهة الأكاديمية أو استبدال دور المعلم. يجب أن يكون الاخصائي قادراً على إزالة الغموض (Demystify) عن هذه التقنيات، وشرحها بلغة بسيطة، والاستماع بتعاطف للمخاوف، وقيادة حوار بناء حول الفرص والتحديات.
- التصميم والتيسير التشاركي (Collaborative Design & Facilitation): بدلاً من تقديم حلول جاهزة، يعمل المتخصص الفعال كشريك في عملية التصميم. هو يشارك المعلمين في تصميم وتطوير التجارب التعليمية (Co-design)، مما يضمن أن الحلول الناتجة تلبي الاحتياجات الفعلية للسياق التعليمي وتزيد من تبني المعلمين لها. كما تشمل هذه الكفاءة القدرة على تيسير ورش العمل، والجلسات التدريبية، ومجتمعات الممارسة عبر الإنترنت (Online Communities of Practice)، وتحفيز التفاعل والمشاركة البناءة.
- القيادة والمناصرة الرقمية (Digital Leadership & Advocacy): على الرغم من أن المتخصص قد لا يمتلك سلطة إدارية رسمية، إلا أنه يمارس القيادة من خلال التأثير والإقناع. تتضمن هذه الكفاءة القدرة على بناء رؤية للابتكار التربوي، والمناصرة لاعتماد التقنيات الواعدة والممارسات الفضلى، وتقديم حجة مقنعة ومبنية على الأدلة لصناع القرار. وبهذا يعتبر الاخصائي صوت المتعلم والمعلم في المواقف التي يتم فيها اتخاذ القرارات التقنية. بمعنى أنه يجب على اخصائي تكنولوجيا التعليم أن يكون صوت العقل والضمير في المؤسسة فيما يخص اتقنيات الجديدة لاعتمادها بشكل مسؤول، والدفع نحو تطوير سياسات مؤسسية واضحة للاستخدام الأخلاقي لتلك التقنيات من قبل الطلاب والمعلمين.
المحور الثالث: التصرف في الحاضر (المُحلل الرشيق للمشكلات Agile Problem Solver)
تركز هذه الفئة على المهارات التي تمكن أخصائي تكنولوجيا التعليم من الاستجابة بفعالية للتحديات الحالية، واتخاذ قرارات مستنيرة، وحل المشكلات، وتعزيز الإبداع في بيئة تعليمية ديناميكية. تتضمن هذه المهارات:
- التفكير التحليلي والنقدي (Critical and Analytical Thinking): ففي سوق تفيض بالحلول التقنية، يجب أن يمتلك المتخصص القدرة على تقييم الأدوات الرقمية بشكل نقدي. هذا التقييم لا يعتمد فقط على الميزات، بل يشمل معايير تربوية مثل(هل تدعم الأداة التعلم النشط؟)، ومعايير تقنية مثل (هل هي آمنة ومستقرة؟)، ومعايير تشغيلية مثل (هل تتكامل مع الأنظمة الحالية؟)، ومعايير أخلاقية مثل (كيف تتعامل مع بيانات المستخدمين؟)، ومعايير مالية مثل (ما هي التكلفة الإجمالية للملكية؟).
- إدارة المشاريع الرشيقة وحل المشكلات (Agile Project Management & Problem-Solving): المشاريع التعليمية نادراً ما تسير وفق خطة ثابتة. تتطلب هذه الكفاءة القدرة على استخدام منهجيات إدارة المشاريع الرشيقة (Agile)، التي تسمح بالتكيف السريع مع المتغيرات، والعمل في دورات قصيرة (Sprints)، وجمع التغذية الراجعة بشكل مستمر. كما تشمل القدرة على تشخيص المشكلات التقنية والتدريسية المعقدة بسرعة وابتكار حلول عملية وفعالة.
- الإبداع في تصميم وتنظيم المحتوى (Creative Content Curation & Design): تشير إليه بعض الأدبيان بمسمى الإبداع المدعوم بالتكنولوجيا (Technology-Enhanced Creativity) حيث تتجاوز هذه الكفاءة مجرد إنشاء المحتوى، لتشمل القدرة على تنظيم (Curation) أفضل الموارد المتاحة، وتصميم تجارب تعليمية متعددة الوسائط تكون جذابة وشاملة ومتاحة للجميع (Accessible). يتضمن ذلك استخدام مبادئ التصميم المرئي، وسرد القصص الرقمي، وتقنيات التلعيب (Gamification) لزيادة دافعية المتعلمين. ومع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي فتحت آفاقاً هائلة للإبداع. ومع أكتساب المتخصص مهارة “هندسة الأوامر” (Prompt Engineering) يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد سيناريوهات دراسية متنوعة، أو إنشاء بنوك أسئلة للتقييم التكويني، أو تصميم صور ورسوم بيانية لتوضيح المفاهيم المعقدة، ومساعدة المعلمين على فعل الشيء نفسه.
المحور الرابع: صناعة المستقبل (المبتكر الاستراتيجي)
يركز هذا المحور على الرؤية طويلة الأمد والقدرة على استشراف المستقبل وتشكيله بشكل استباقي بدلاً من مجرد التفاعل معه.
- المواطنة الرقمية الأخلاقية والشاملة (Ethical & Inclusive Digital Citizenship): يتحمل متخصص تكنولوجيا التعليم مسؤولية كبيرة في تعزيز بيئة رقمية آمنة وعادلة. تشمل هذه الكفاءة فهمًا عميقًا وتطبيقًا للمعايير الأخلاقية، مثل خصوصية البيانات (FERPA/GDPR)، وحقوق الملكية الفكرية، والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في التعليم. والأهم من ذلك، هو أن يكون بطلًا للوصول الرقمي (Digital Accessibility)، مما يضمن أن جميع المواد والتجارب التعليمية مصممة وفقًا لمعايير مثل WCAG لتكون قابلة للاستخدام من قبل جميع المتعلمين، بمن فيهم ذوو الإعاقة (Ribble, 2015).
- استشراف المستقبل (Futures Thinking ): يجب أن تكون عين المتخصص دائمًا على الأفق، باحثًا عن الاتجاهات والتقنيات الناشئة التي قد تعيد تشكيل مستقبل التعليم، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، والواقع الافتراضي والمعزز (VR/AR)، وتحليلات التعلم المتقدمة. لا يتعلق الأمر بالتبني الأعمى لكل ما هو جديد، بل بالقدرة على تقييم هذه الاتجاهات بشكل نقدي، وتجريبها على نطاق صغير، وتقديم توصيات استراتيجية للمؤسسة حول الاستثمارات المستقبلية.
- الابتكار المستدام والقابلية للتوسع (Sustainable & Scalable Innovation): الابتكار الحقيقي ليس مجرد مشروع تجريبي مبهر، بل هو الحل الذي يمكن أن ينمو ويستمر ويدمج في نسيج المؤسسة. تتطلب هذه الكفاءة التفكير في القابلية للتوسع منذ اليوم الأول، وتصميم حلول لا تكون فعالة تربويًا فحسب، بل تكون أيضًا قابلة للإدارة والدعم والاستدامة من الناحية المالية والتقنية على المدى الطويل.
الكفاءات الشاملة (الحلقة المحيطة)
تُعتبر هذه الكفاءات ضرورية للنجاح في أي بيئة تعليمية حديثة ، وتُدمج فيها المهارات الرقمية الناعمة جنبًا إلى جنب مع المعرفة والمواقف. بالنسبة لأخصائي تكنولوجيا التعليم، تُعتبر هذه الكفاءات بمثابة حجر الزاوية الذي يضمن التطبيق الإنساني والفعال للتكنولوجيا، وتدعم هذه الكفاءات جميع المحاور الأربعة السابقة.
- التعاطف متعدد الثقافات (Intercultural Empathy): في سياق العولمة ورقمنة التعليم، يزداد التفاعل مع أشخاص متنوعين. من المهم الوعي بالاختلافات في الثقافة واللغة والمواقف والهوية. في الفضاء الرقمي، يتأثر هذا بشكل أكبر بنقص الإشارات الجسدية للمساعدة في فهم المعنى. التعاطف بين الثقافات يعني احتضان التنوع بنشاط، والوعي بالهويات المختلفة والمتغيرة، وأن تكون شاملًا بوعي. بالنسبة لأخصائي تكنولوجيا التعليم، هذا يعني القدرة على الوعي بالآثار الثقافية لاستخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في سياقات مختلفة، وتصميم حلول تكنولوجية تعليمية تراعي التنوع الثقافي واللغوي. فضلا عن تسهيل التفاعلات الرقمية التي تعزز الفهم والاحترام المتبادل بين المتعلمين من خلفيات متنوعة.
- الممارسة التأملية (Reflective Practice): كما وصفها دونالد شون (Schön, 1983)، الممارسة التأملية هي جوهر نمو الخبراء. يجب على متخصص تكنولوجيا التعليم أن يخصص وقتًا بانتظام للتأمل في ممارساته: ما الذي نجح؟ ما الذي يمكن تحسينه؟ كيف أثرت تدخلاتي على تعلم الطلاب وممارسة المعلمين؟ يمكن استخدام أدوات رقمية مثل المدونات أو المحافظ الإلكترونية (ePortfolios) لدعم هذه العملية التأملية المنهجية.
- التفكير المرن في التعلم (Flexible Thinking in Learning): يتغير مجال تكنولوجيا التعليم بسرعة البرق. التفكير المرن هو القدرة على التكيف مع التغيرات المفاجئة، والتخلي عن الأساليب القديمة عندما تظهر أخرى أفضل، وتقبل الغموض كجزء طبيعي من عملية الابتكار، والمرونة في النظر في البدائل وقبولها. في السياق التعليمي الرقمي، تعد كفاءة أساسية يمكن أن تسهل المهارات الرقمية الناعمة الأساسية.
الكفاءة العليا: التطوير المهني المستمر (Continuous Professional Development – CPD)
هذه هي الكفاءة التي تغلف الإطار بأكمله. إنها تمثل الالتزام الشخصي والمهني بالتعلم مدى الحياة. بالنسبة لمتخصص تكنولوجيا التعليم، التطوير المهني المستمر ليس حدثًا سنويًا، بل هو ممارسة يومية تتجسد في كل محور من محاور هذا الإطار. كل مهمة هي فرصة للتعلم، وكل تفاعل هو فرصة للنمو، وكل تحدٍ هو حافز لاكتساب كفاءة جديدة.
كلمة أخيرة
إن متخصص تكنولوجيا التعليم الذي يجسد هذا الإطار الشامل للمهارات الرقمية الناعمة هو أكثر من مجرد خبير تقني؛ إنه قائد تربوي، ومصمم متعاطف، وعامل تغيير استراتيجي. الانتقال من التركيز على الأدوات إلى التركيز على الكفاءات البشرية هو ما يميز المتخصص الجيد عن المتخصص الاستثنائي. من خلال تبني هذا النهج المتمحور حول الإنسان، يمكن لمتخصصي تكنولوجيا التعليم أن يلعبوا دورًا حاسمًا في تشكيل مستقبل التعليم، ليس فقط من خلال جعله أكثر كفاءة من الناحية التقنية، ولكن من خلال جعله أكثر إنسانية وشمولية وفعالية للجميع.
المراجع
Ehlers, U. D. (2020). Future Skills. The future of learning and higher education. Retrieved https://www.researchgate.net/publication/344537368_Future_Skills_-_The_Future_of_Learning_and_Higher_Education
European Commission. (2017). European Framework for the Digital Competence of Educators: DigCompEdu. Publications Office of the European Union, retrieved https://publications.jrc.ec.europa.eu/repository/handle/JRC107466
Garrison, D. R., Anderson, T., & Archer, W. (2000). Critical inquiry in a text-based environment: Computer conferencing in higher education. The Internet and Higher Education, 2(2-3), 87-105. , Retrieved from https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S1096751600000166
Koehler, M. J., & Mishra, P. (2009). What is technological pedagogical content knowledge? Contemporary Issues in Technology and Teacher Education, 9(1), 60-70. Retrieved from https://www.researchgate.net/publication/241616400_What_Is_Technological_Pedagogical_Content_Knowledge
McNeill, J. (2019). Skills vs. competencies – what’s the difference, and why should you care. HAYS Recruiting Experts Worldwide, Retrieved from https://social.hays.com/2019/10/04/skills-competencies-whats-the-difference/
Ribble, M. (2015). Digital citizenship in schools: Nine elements all students should know (3rd ed.). International Society for Technology in Education (ISTE). Retrieved from https://www.scirp.org/reference/referencespapers?referenceid=2346884
Rychen, D. S., & Salganik, L. H. (Eds.). (2003). Key competencies for a successful life and a well-functioning society. Hogrefe & Huber.
Schön, D. A. (1983). The reflective practitioner: How professionals think in action. Basic Books.