الفقاعة الأكاديمية

كتبها : د. مصطفى جودت صالح

مصطلح ( الفقاعة ) هو مصطلح اقتصادي في الأساس وهو وصف لحالة تحدث عندما تتسبب المضاربة على سلعة ما في تزايد سعرها، بطريقة تؤدي لتزايد المضاربة عليها. وقتها يبلغ سعر هذه السلعة مستويات خيالية، في تشبيه انتفاخ البالون، حتى يبلغ مرحلة ما يسمى بانفجار الفقاعة أو البالون (الانهيار) وحدوث هبوط حاد ومفاجئ في سعر هذه السلعة.كذلك يُقصد بهذا التعبير وصف بعض الاقتصادات التي تشهد رواجاً اقتصادياً كبيراً لفترات زمنية محدودة، دون أن تستند إلى قاعدة إنتاجية متينة قادرة على توليد الدخل المنتظم والاستمرار في الرفاهة والرواج على أسس دائمة ومتواصلة.
يُنظر عامة إلى الفقاعات الاقتصادية على أنها ذات تأثير سلبي على حالة الاقتصاد، لأنها تسبب حدوث حالة التوزيع غير العادل للموارد، في اتجاه استخدامات غير مثلى. بالإضافة لذلك، الانهيار الذي يلي الفقاعة الاقتصادية يمكن له أن يدمر ويفني مقداراً كبيراً من الثروات، ويتسبب في حالة من السقم الاقتصادي مثل ما حدث في الكساد العظيم عام 1930 في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي اليابان عام 1990.
الفقاعة العقارية، هي أحد أشكال الفقاعات الاقتصادية وتأتي عندما يزداد الإقبال على الاستثمار العقاري بشكل كبير مما يؤدي لزيادات غير مبررة في أسعار العقارات هذه الزيادات تتبعها زيادات أكبر نتيجة ارتفاع نسب فوائد البنوك ( الممولة للشراء ) مما يضعط على المستثمر لسرعة البيع وتحصيل الأرباح مما يؤدي في النهاية إلى أنهيار في أسواق العقارات والبيع باقل من تكلفة الشراء ، وضياع قدر من الثروات المستثمرة في هذه العقارات ومن ثم أنخفاض في الثروة بشكل عام.
فقاعة الإنترنت (و تعرف أيضا باسم فقاعة الدوت-كوم dot com boom أو فقاعة تكنولوجيا المعلومات) امتدت في الفترة ما بين 1995 و2000. في هذه الفترة، نمت عديد من المشروعات التجارية عبر الإنترنت لكنها لم تحقق الأرباح المنشودة لعوامل عدة لعل أهمها محدودية عدد المشتركين مقابل الأرباح المنشودة ، وزيادة التكلفة بسبب زيادة العمالة المطلوبة لإدارة تلك المواقع وارتفاع تكلفتهم، ويكفي أن نعلم أن موقع أمازون الشهير كاد أن يفلس في عام 1999. ويتوقع البعض تكرار هذه الفقاعة في الأعوام القادمة بسبب الزيادة المضطردة في سوق المشروعات المعتمدة على التجارة الإلكترونية في مقابل تراجع في القدرة الشرائية عند المستخدمين وعدم التوجه لفتح أسواق جديدة.
لكن ما علاقة ما تقدم بمصطلح الفقاعة الأكاديمية
إن المتتبع لوضع التعليم الجامعي على وجه الخصوص يلاحظ زيادة مصطردة في الخريجين في تخصصات لا ينتظر أن تجد ما يستوعبها في سوق العمل ، ونظرا لارتفاع المنافسة على فرص العمل المتاحة والقليلة في الأساس يؤدي إلى تقليل الطلب على المنتج ( الخريج) وزيادة البطالة في صفوف الخريجين لهذا التخصص ومن ثم عزوف الطلاب عن دخول هذه التخصصات فتصبح الاقسام الأكاديمية بلا طلاب أو يكون أعداد أعضاء هيئة التدريس بها أكثر من أعداد الطلاب.
كلامي لا يتعلق بكليات مثل التجارة أو بعض أقسام الآداب والتي تخرج آلاف الجامعيين الذين لا يجدون عملا كل عام، فهذه الأقسام هي في النهاية الحل الأخير لمن لم يحصل على مجموع مناسب في الثانوية العامة ، وللأسف من يتخرج منها لا ينتظر في كثير من الأحيان أن يعمل في تخصصه بل هي لمجرد الحصول على لقب “جامعي” ، بل كلامي على بعض التخصصات والأقسام التي شهدت زيادة مضطردة في الخريجين في السنوات العشر الأخيرة يفوق ما كان متوقعا منها ولأضرب مثلا بأقسام تكنولوجيا التعليم بكليات التربية والتربية النوعية.
بدأت أقسام تكنولوجيا التعليم كاستجابة لحاجة ماسة لتخريج أخصائي تكنولوجيا تعليم للعمل بمراكز مصادر التعلم و مراكز التطوير التكنولوجي ، ومع ظهور مشروعات تكنولوجية عديدة في التسعينات كمشروع مبارك لتطوير التعليم قبل الجامعي ، وإنشاء سلاسل مكتبات جمعية الرعاية المتكاملة وزيادة الاهتمام بمفهوم مراكز مصادر التعلم محليا وعربيا كان خريج هذه الأقسام لا يجد عناء في الحصول على وظيفة “حكومية” والتي قد تمثل الحد الأدنى من ” الأمان” للمواطن العادي، ومع زيادة مشروعات تطوير التعليم تم فتح اقسام لتكنولوجيا التعليم بكليات التربية النوعية والتي عانت في كثير من الأحيان من نقص الإمكانات المادية والبشرية وعدم المعيارية حتى أن بعضها قام بضم طلاب التعليم الصناعي ( وهو مجال هام لا نقلل منه ) إلى أقسام تكنولوجيا التعليم ، ولكن فتح هذه الأقسام أوجد حاجة لتوفير أعضاء هيئة تدريس في التخصص ليقوموا بالتدريس في هذه الأقسام مما أوجد أقبالا على الدراسات العليا في المجال ، واصبحت اقسام تكنولوجيا التعليم في الكليات تشهد أقبالا متزايدا من طلاب الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه ، ضاعف هذا الأقبال وصول موجات من طلاب الدول الخليجية للتسجيل في مصر في هذا التخصص الجديد. أدى هذا الإقبال إلى قيام بعض أقسام المناهج وطرق التدريس إلى إضافة مسمى تكنولجيا التعليم إلى إسمها كما أدى إلى فتح مزيد من الأقسام الأكاديمية ببعض كليات التربية التي لم يكن بها اقسام تكنولوجيا التعليم في موجته الأولى واستمر هذا الإقبال وتزايد حتى أن عديد من كليات التربية النوعية بدأت بفتح ماجستير ودكتوراه في تكنولوجيا التعليم بعض هذه الأقسام كان المشرف عليها بعيد كل البعد عن تخصص تكنولوجيا التعليم بل أن بعضهم كانوا غير تربويين في الأساس كتخصصات السينما والتلفزيون أو الحاسب. لم تستمر هذه المشكلة طويلا نتيجة تخريج دفعات من المعيدين التي ترقت في سلم الترقيات الآن إلى أستاذ ، لكن المشكلة الحالية هي دخولنا على ما يشبه الفقاعة الاقتصادية والتي سميتها بالفقاعة الأكاديمية ، هذه الفقاعة تتمثل في توقف كثير من مشروعات التطوير ، توقف التكليف لخريجي كليات التربية، مما أدلى إلى انخفاض الطلب على الخريج وقلة فرص العمل مما زاد التنافس وزاد إقبال الخريجين على الدراسات العليا علهم يتميزون عن زملائهم ، ومع زيادة الحاصلين على الماجستير والدكتوراه من الخريجين وانخفاض التعيين بالأقسام الأكاديمية بعد تشبعها، وضم بعضها إلى أقسام ذات كثافة عددية كبيرة ، وأنخفاض الطلب من دول الخليج على خريجي أقسام تكنولوجيا التعليم لأسباب عدة لعل منها بدء أقسام مناظرة في هذه الدول بحيث لم تعد هناك حاجة بهم للابتعاث إلى مصر ، وأسباب أخرى لا داعي للخوض فيها.
لكن رغم ذلك لازالت الزيادة المضطردة في عدد طلاب الدراسات العليا وعدد الدراجات الأكاديمية الممنوحة في هذا التخصص ، مما يضع على عاتق الأقسام الأكاديمية ضرورة مواجهة هذه الزيادة عن طريق رفع جودة المنتج وتميزه ، مثل فتح شعب تخصصية يحتاجها سوق العمل ، تقنين عملية منح الدرجات الأكاديمية على مستوى الماجستير والدكتوراه ووضع ضوابط سوءا من حيث مواصفات المتقدم أو مواصفات البرامج واشتراطات التخصص الدقيق في الإشراف.
كنت في سنة 2008 في زيارة لإحدى المدارس بدول الخليج وفوجئت أن المدرسين فيها أغلبهم حاصل على الدكتوراه أو الماجستير وحين ناقشتهم أشاروا أن التنافسية في العمل في هذه الدولة ( لارتفاع الأجور نسبيا عن باقي دول الخليج ) عالية وأن هذه المدرسة متميزة وأصبحت تختار مدرسيها فقط من الحاصلين على الماجستير أو الدكتوراه في التخصص، هذا إن كان في ظاهره أمر جيد ومغري بسبب الأجر لكنه يؤكد على هبوط سقف الفرص المتاحة للخريج . بعد الحادثة السابقة بعامين أي في 2010 كنت ضمن فريق اعتماد أحد المدارس بالقاهرة ففوجئت أن ثلاثة من العاملين بالمدرسة تحديدا بالمكتبة وبمعمل ” الأوساط ” هم مسجلين في مرحلة دبلوم الدراسات العليا في قسمي الأكاديمي وفي تخصصي وأشاروا جميعا في حديث جانبي أنهم بالتحاقهم ببرامج الدراسات العليا وربما الحصول على الماجستير يأملون أن يحصلوا على فرصة للسفر أو التعيين في مكان أفضل.
ما حدث مع اقسام تكنولوجيا التعليم حدث مع تخصصات أخرى حتى ما تسمى بكليات القمة ، فبعد الزيادة الضخمة في القبول في تلك الكليات ولنأخذ كليات الطب على سبيل المثال، وفتح أقسام طبية بالجامعات الخاصة لتلبية حلم كل من لم يسمح له مجموعة بدخول هذا المجال، ومع انخفاض أجور الأطباء بالمستشفيات الحكومية، وسعيهم للعمل الإضافي بالمستشفيات والعيادات الخاصة، وارتفاع تكلفة العيادات والأجهزة الطبية من جهة أخرى مما يصعب على الطبيب حديث التخرج أن يوفر الموارد اللازمة لفتح عيادة خاصة سعى بعض هؤلاء الأطباء إلى العمل خارج مجالهم فلا نستغرب إذا وجدنا طبيبا يعمل كمندوب مبيعات لشركة أدوية ( طبيب وليس صيدلانيا ) أو حتى في مجال تجاري أو خدمي غير طبي.
كل هذا وأكثر يدعونا إلى ضرورة إعادة النظر في فتح الأقسام الأكاديمية وإيجاد تخصصات حديثة يحتاجها سوق العمل ، واستبدال برامج الدراسات العليا ببرامج إعادة التأهيل والتي يحتاجها الخريج بشكل أكبر ، لدينا طاقة بشرية تعد كنزا إن احسنا استغلالها.
وفي النهاية آمل أن لا نصل لفكرة الفقاعة الأكاديمية .
والسلام عليكم ورحمة الله

عن د مصطفى جودت

أستاذ تكنولوجيا التعليم المشارك بجامعة الملك سعود ، وجامعة حلوان مدير تطوير المحتوى الرقمي بجامعة الملك سعود
error: Content is protected !!