
ألهمت روبوتات المحادثة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي التوليدي (GAI) المصممين التعليميين لمحاكاة عمل المعلم الخبير في الموقف التدريسي، لكن هل يتفوق التدريس المعتمد على الذكاء الاصطناعي على المعلم البشري في موقف قائم على التعلم النشط؟ هذا السؤال دارت حوله عديد من الدراسات لم تقدم نتيجة حاسمة وواضحة ورغم ذلك فقد شهدت أنظمة تعليمية عدة اعتمادا متزايدا على تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم. ومؤخرًا، تعهد رئيس الولايات المتحدة “بتوظيف إمكانات الذكاء الاصطناعي لتحويل التعليم من خلال إنشاء موارد لدعم المعلمين الذين ينشرون أدوات تعليمية مدعمة بالذكاء الاصطناعي”
ثمة دراسة جديدة من جامعة هارفارد – ماتزال في مرحلة مراجعة الزملاء – قدمت أدلة تشير إلى على تفوق نتائج الطلاب الذين درسوا باستخدام برنامج تعليمي قائم على الذكاء الاصطناعي على نتائج أقرانهم الذين درسوا بواسطة معلم بشري باستخدام أساليب التعلم النشط. ولا أخفيكم سرا أني حين قرأت عنوان الدراسة وملخصها في بادئ الأمر توقعت أن ثمة خلل في التجربة وأن النتائج التي توصلت إليها لا يعتد بها نظرا لوجود ثغرات في المقارنة منها أن اختلاف خبرة المعلم الأكاديمية والتربوية قد تؤدي إلى اختلاف النتائج كما أن الاختلاف قد يرجع في جزء منه إلى طبيعة النشاط والممارسة، وهذا ما أشارت إليه الدراسة ذاتها عند استعراضها للدراسات السابقة حيث ظهر أن أغلب نتائج الدراسات السابقة لم تكن حاسمة تجاه الذكاء الاصطناعي في التدريس أو تجاه المعلم البشري، لكن وبشكل عام فإن حداثة الدراسة والفريق المشترك في إعدادها جعلتني لا استطيع تجاهلها بل ويمكني القول أن هذه الدراسة قد تفتح بابا هاما للفرق البحثية في عمل مزيد من الدراسات التجريبية لقياس فاعلية الذكاء الاصطناعي في التعليم.
بيانات الدراسة
Kestin, G., Miller, K., Klales, A., Milbourne, T., & Ponti, G. (2024, May 14). AI Tutoring Outperforms Active Learning. https://www.researchsquare.com/article/rs-4243877/v1 , doi: 10.21203/rs.3.rs-4243877/v1
نظرة عامة على الدراسة ومنهجيتها
استندت الدراسة على نتائج مشتركة بين عديد من الدراسات أشارت إلى أن التعلم فرديا مع معلم خصوصي خبير Expert tutor يعطي أفضل نتائج تعليمية، ففي هذا النموذج يمكن للمعلم توجيه الطالب مع تقديم ملاحظات شخصية والإجابة على أسئلته فور طرحها، فضلا عن تحقيقه مبدأ تخصيص التعلم . فالمعلم الخبير سيكيف أسلوبه مع وتيرة تعلم الطالب واحتياجاته الفردية بمعنى أن تقدم للطالب تجربة تعليمية أكثر تركيزًا وكفاءة، مما يقلل من الحمل المعرفي للطالب، ويزيد من كفاءة تعلمه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتعليم الشخصي أن يعزز المهارات العقلية العليا لدى الطالب بشكل أكبر، لكن رغم إجماع الدراسات تقريبا على هذا النموذج إلا أنه لا يمكن التوسع فيه ليقابل عدد الطلاب نظرا لأن عدد المعلمين لا يمكن أن يساوي عدد الطلاب وبالتالي لا يمكن توفير معلم شخصي لكل طالب، وهذا من أحد أبرز دوافع دراسة توظيف الذكاء الاصطناعي في التدريس.
طرح فريق الباحثين تساؤلا عاما مفاده؛ ماذا لو كان بإمكان مدرس الذكاء الاصطناعي تقليد تجربة التعلم التي قد يحصل عليها المرء من معلم خبير (بشري)؟ أيمكن أن يعالج الاحتياجات الفريدة لكل فرد من خلال الملاحظات في الوقت المناسب مع تبني ما نعرفه من علم كيفية تعلم الطلاب بشكل أفضل؟
أجرى فريق من الباحثين دراسة عشوائية مضبوطة تجريبيا لقياس تعلم طلاب جامعة هارفارد في خريف 2023 في مقرر الفيزياء العامة المستوى الثاني ( عينة = 194 طالبا) ثم قياس اتجاهاتهم عند تقديم نفس المحتوى من خلال معلم مدعوم بالذكاء الاصطناعي مقارنة بفصل التعلم النشط التقليدي، وقد تم تطوير المعلم الذكي عبر تحليل ودمج افضل الممارسات التربوية المستخدمة في المحاضرات التقليدية.
استخدمت الدراسة تصميمًا تجريبيا متقاطعًا متطورًا حيث مارس كل طالب أسلوبي التعلم – التدريس بالذكاء الاصطناعي والتعلم النشط في الفصول الدراسية – عبر موضوعين مختلفين: التوتر السطحي وتدفق السوائل. حيث قسم الطلاب إلى مجموعتين متكافئتين في كل موضوع ( والعكس) مجموعة التدريس بالذكاء الاصطناعي: استخدم الطلاب “PS2 Pal”، المدعوم من GPT-4 حيث قدم للطلاب محتوى تعليمي وأوراق عمل متطابقة لتلك المقدمة بالفصول الدراسية فضلا عن مقدمات وشروحات في صورة فيديوهات مسجلة مسبقًا إرشادات منظمة ،واعطي الطلاب فرصة لطرح أسئلتهم والحصول على إجاباتهم وفقا لخطوهم الذاتي واحتياجاتهم الفردية، أما المجموعة الثانية – مجموعة الفصول الدراسية للتعلم النشط فقد شارك الطلاب في جلسات فردية مع معلم بشري مدتها 75 دقيقة ثم استخدمت مناقشات الأقران وعدد من استراتيجيات التعلم النشط، وقد نفذ الفريق البحثي ضوابط متعددة للتحقق من عدم تحيز النتائج منها قيام معلمان مختلفان بتدريس المجموعة التي تحتاج لمعلم بشري للتحكم في تأثير المعلم، كما تم تصميم الاختبارات من قبل أعضاء فريق منفصلين غير الفريق الذي قام بالتدريس لمنع التحيز تم استخدام نسختين متكافئتين من الاختبارات للتحكم في تأثيرات الأسئلة الموجهة وتتابعاتها، كما تمت التحقق من تجانس مجموعات الطلاب من حيث التركيبة السكانية والمعرفة السابقة بالفيزياء، حيث كان 90٪ من المشاركين لم يدرسوا هذه الموضوعات المحددة من قبل.
النتائج الرئيسية
كشفت الدراسة عن عدد من النتائج من أبرزها أن التعلم باستخدام الذكاء الاصطناعي أدى إلى:
تحسن كبير في التعلم: تعلم الطلاب أكثر من ضعف المحتوى عند استخدام المعلم الذكي مقارنة بفصل التعلم النشط
كفاءة أعلى في الوقت: تحقق هذا التحسن في وقت أقل من الوقت المستغرق في الفصل التقليدي
زيادة المشاركة والتحفيز: أظهر الطلاب مستويات أعلى من المشاركة والتحفيز عند استخدام المعلم الذكي

تعليق على نتائج الدراسة
لعل سبب تفوق نتائج التعليم الخصوصي باستخدام الذكاء الاصطناعي عن التعليم النشط في بيئات التعلم التقليدية يعود للعوامل الآتية:
- تخصيص التعليم: قد يكون أحد أسباب نجاح الذكاء الاصطناعي هو قدرته على تكييف المحتوى وفقًا لاحتياجات كل طالب على حدة.
- التفاعل المستمر: وفر الذكاء الاصطناعي فرصًا أكثر للتفاعل والتغذية الراجعة الفورية، مما يعزز عملية التعلم.
- تحفيز الذاتي: قد يشعر الطلاب بمزيد من التحكم في عملية تعلمهم عند استخدام المعلم الذكي، مما يزيد من دافعيتهم.
- تقليل الضغط الاجتماعي: قد يشعر بعض الطلاب براحة أكبر عند التفاعل مع معلم ذكي بدلاً من معلم بشري، مما يقلل من القلق المرتبط بالأداء.
التحديات والاعتبارات
رغم النتائج الواعدة، هناك بعض النقاط التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة:
- التأثير طويل المدى: هل ستستمر هذه النتائج الإيجابية على المدى الطويل؟
- تنوع المواد الدراسية: هل سيكون المعلم الذكي فعالاً بنفس القدر في جميع المواد الدراسية؟
- المهارات الاجتماعية: كيف يمكن ضمان تطوير المهارات الاجتماعية والتواصل الشخصي في بيئة تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا؟
- الفجوة الرقمية والعدالة الاجتماعية: كيف يمكن ضمان وصول جميع الطلاب إلى هذه التقنيات بغض النظر عن خلفياتهم الاقتصادية؟
تكمن قيمة هذه الدراسة أنها فتحت الباب أمام عديد من الاتجاهات البحثية المستقبلية منها:
- إجراء دراسات طويلة المدى لفهم التأثير المستدام للتعلم بمساعدة الذكاء الاصطناعي.
- الحث على تطوير مزيد من التطبيقات الذكية واختبارها.
- العمل على تطوير طرق لدمج تنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية في التعلم بمساعدة الذكاء الاصطناعي.
- البحث في طرق لجعل هذه التقنيات متاحة على نطاق واسع لجميع الطلاب.